|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي

لم يكن يوم الأربعاء الثلاثون من يوليو 2025 يومًا عاديًا في سجل الذاكرة، بل كان صفحة مطرّزة بأنبل صور الكرم العماني، وعنوانًا لمشهدٍ من مشاهد النبل الإنساني الذي لا يُشترى ولا يُصطنع. كان لقاء الوفد القادم من “الأمل العالمية” في رحاب بيت أبي لؤي وأم لؤي ليس مجرد غداء؛ بل كان درسًا عميقًا في الكرم، مكتوبًا بأنامل الطيبين، ومغموسًا في وجدان شعبٍ علّم الناس كيف تكون الضيافة أخلاقًا لا مناسبة، وميراثًا لا مظهرًا.
ما إن تخطو عتبة ذلك البيت العامر، حتى تتبدل مفاهيم “الاستقبال”، ويخجل القاموس من عجزه أمام ما يُقال في وصف المشهد. بيتٌ يقف على عتبة النقاء، يضمّ قلبين احتضنا الوفد القادم وكأنهم أبناءٌ عائدون من غربة، لا ضيوفٌ في زيارة عابرة. أبو لؤي… رجل من نسل الأصالة، تتقاطع في قسمات وجهه بساطة الجبل، ووقار البحر، وكرم الرمال التي تهدي الماء لغريبٍ عطشان دون أن تسأله عن اسمه. وأم لؤي… تاجٌ من حنان، تُدثّر الحضور بطُهر الأمومة، وتُحسن وفادة القادمين بروح امرأة خَبِرت كيف يكون الطيب عادةً يومية لا مجاملة. في الزوايا، لا تُشاهد فقط الأثاث ولا النقوش، بل تُبصر روح عُمان تسكن كل تفصيلة: عبق اللبان، لمسة السكينة، أناقة الأصالة بلا تكلّف، وحديث القلوب يسبق فنجان القهوة.
وحين أُعلنت المائدة، كانت المفاجأة الأكبر، وكأنك تدخل محرابًا من الامتنان والوفاء. الطعام لم يكن فقط مما تُحب النفس، بل كان مما يروّي الروح، وكأن كل طبق يحمل قصة، وكل نكهة تحكي عن أمجادٍ لم تُنسَ. من الكبسة العمانية بطعمها المنزلي العميق، إلى الحلوى التي لا تُؤكل، بل تُعانق، كانت المائدة أشبه بسجادة من الذكريات الممتدة من ظفار حتى مسندم، ومن صحار حتى صور، ومن بهلاء حتى نزوى.
وكان من بين الحضور العزيز “الخطاب”، ذاك الذي حضر لا بصفته الرسمية، بل بروحه الأبية، فجلس متواضعًا كأبناء المدرسة العمانية العريقة، حيث الكلمة لا تُقال عبثًا، والاحترام لا يُمنح لمنصب بل لأدب النفس.
تذكرتُ عندها قول الإمام نور الدين السالمي، أحد حكماء عُمان، حين قال: “الكرم ليس أن تُعطي كثيرًا، بل أن تُعطي من غير أن تُحرج، ومن غير أن تُشعر من يأخذ بأنه أقل منك.”
وقد جسّد أبو لؤي وأم لؤي هذه الحكمة بكل تفاصيلها، فأنت في ضيافتهم لا تشعر إلا أنك في بيتك، وكرمهم لا يُظهرك كغريب بل يعيد تعريفك كأخ، كرفيق، كأحد “أهل الدار”.
ولأن لكل كرمٍ مقام، فإن الوفد القادم من الأمل العالمية لم يكن وفدًا تقليديًا، بل هو وفد يحمل رسالة الإنسان، ويجول من أجل الغرس، لا الحصاد. ولذلك، كان من الجمال أن يلتقي الكرم العماني الأصيل، بحاملي همّ الأمل، فتتشكل لحظة نادرة من لحظات التكامل البشري بين من يزرع، ومن يسقي، ومن يحنو، ومن يُؤمن أن الخير هو الفطرة، وأن التعاون أصل وليس استثناء.
وقد تحدث أحد أعضاء الوفد، وقد اغرورقت عيناه بالمحبة، قائلًا:
“جئنا إلى عُمان نحمل هموم المجتمعات، لكننا سنغادرها نحمل ما هو أغلى… نحمل قصصًا نحكيها لأبنائنا، عن دارٍ فتح أبوابه قبل أن نطرقه، وعن أمٍّ قدمت لنا الطعام كأننا ولدنا من رحمها.”
تأملت المشهد كله، واستعدت حكمة الشيخ سالم بن حمود السيابي، حين كتب ذات مرة:
“الكرم بابٌ لا يُطرق من الخارج، بل يُفتح من الداخل حين تسكن الرحمة قلب صاحبه.” وهذا البيت الذي كنا فيه، لم يُفتح فقط بابه، بل انفرجت نوافذُه ومشاعره وكل زواياه، فاحتضنت القادمين كما لم يُحتضنوا من قبل.
وما بين التمر والقهوة، وما بين الدعاء للغائبين والترحيب بالحاضرين، سرت نسماتٌ من ذلك النبل العُماني الذي يُشبه النسيم في شموخه… لا يُرى، لكنه يُشعر، لا يُمسك، لكنه يسكن. لم تكن الضيافة حدثًا، بل كانت حكاية، تشهد عليها الأطباق، والأرواح، والمودة. كانت رسالة من أبي لؤي وأم لؤي تقول: “نحن من عُمان التي لا تنسى زائرها، ولا تبخل ببسمتها، ولا تنسى فضلها.”
أما الوداع، فلم يكن وداعًا، بل وعدًا. وعدٌ بأن هذه الزيارة ستظل محفورةً في الذاكرة كآية من الجمال، وبيتٍ يُدرس في كتب السلوك النبيل. فمن أراد أن يتعلم الكرم، فليأتِ إلى بيت أبي لؤي. ومن أراد أن يرى الضيافة، فليسأل عن أم لؤي. ومن أراد أن يُوقن أن الخير لا يزال حيًّا، فلينظر إلى وجوه العمانيين، فهي مرآة النقاء.
ختامًا: في عالم تزداد فيه العلاقات نفعية، وتُختصر فيه الضيافة إلى فواتير وضيوف مدفوعي التذكرة، ما فعله أهل عُمان – وما جسده بيت أبي لؤي وأم لؤي – هو تجديد للعهد الإنساني الأصيل. عهدٍ يقول: “ما زال في الدنيا بيوت، حين تزورها، تذكّرك أن الكرام لا يشيخون، وأن المروءة ما زالت تمشي على الأرض.”
