|
Getting your Trinity Audio player ready...
|
ليس كل من رحل يُذكر، وليس كل من ذُكر حضر. لكن محمد كيوان، ذاك المهندس الفلسطيني الذي مضى في صمت قبل ثلاث سنوات، حضر هذا الأسبوع كما لم يحضر في حياته، لا بحدث سياسي، ولا بمنشور دعائي، بل بشهادات ثلاث…
شهادات من ثلاث قارات، ومن ثلاث لغات، ومن رجالٍ لا يربطهم به نسب، ولا وطن، ولا مصلحة. مجرد “أثر” مشى على أقدام الصدق، فاستقر في القلب، وبقي. كتبتُ عنه مقالًا، هو بعض من كثير لم يُكتب، سردت فيه ما لم تسعه التقارير، ولا عرفه كثيرون ممن مرّوا قربه دون أن يلمحوا عمق هذا الصمت العاقل، ولا طهارة هذا العطاء المتخفي خلف هندسة متقنة وحضور متواضع.
وقبل أن يجفّ مداد المقال، أتى أول الردود… من أرض الكنانة، من أصدقاء الغربة، وزملاء المهنة، لكنه كتب ما يليق بالشرفاء: “من يتذكّر الآن رجلًا مرّ في حياته لبضعة أعوام… لا من جنسيته، لا يقيم في بلده، لا تربطه به صلة مصاهرة، ولا يجمعهما بزنس… ثم يحفظ تاريخ مغادرته ويذكره، لا بعد عام بل بعد ثلاثة؟” لم يكن هذا تعليقًا، بل شهادة زمن: أن محمد كيوان لم يكن مجرد مهندسٍ يُنجز ملفاته، بل كان قيمة إنسانية تمشي بين الناس، وتُزرع دون ضجيج، ثم تُثمر حين لا يتوقع أحد أن للغياب بقاء.
ولم تمضِ ساعات حتى بادر د. خيار – صاحب الذوق الإريتري الرفيع – إلى نشر المقال في مجموعة “نون” الثقافية، ليستقر محمد كيوان في مجلس المثقفين، كما كان يستقر في ضمائر طلابه، ومشاريع الخير، وجداول الإنشاءات التي لم تكن عنده حديدًا وإسمنتًا، بل كانت أحلامًا ومسؤوليات وأمانات. وما كادت المجموعة تفتح أوراقها على المقال، حتى دخل التعقيب الثالث من الشرق الأقصى، من فوز الرحمن، ذاك السيرلانكي الصديق العزيز الذي فتح ذاكرته لا ليستعرض معرفة، بل ليسترجع لحظة خير قديمة: “عرفتُ محمد كيوان قبل أكثر من عشرين عامًا، حين زار سريلانكا يحمل في قلبه همًّا إنسانيًا، ورؤيةً نبيلة لمأوى أيتام… لم يكن تصميمًا هندسيًا فحسب، بل كان بذرة أمل. واليوم، في نفس المكان، يقوم مجمّع تربوي شامخ، يصنع رجالًا، ويُربّي جيلًا.”
يا الله… أيّ أثر هذا؟ ومن أي طينةٍ جُبل هذا الرجل، الذي اختار منفى الأرض ليقيم وطنًا في الضمير؟
كيف لرجلٍ أن يزرع في سريلانكا مشروعًا، وفي بنغلاديش جيلًا، وفي مصر ذكرى، وفي إريتريا وفاءً، وفي كل بقعة طُهرًا لا يعرف الضجيج؟
قال علي بن أبي طالب: “ما مات من ترك أثرًا في القلوب.” ومحمد كيوان، لم يترك أثرًا فحسب، بل خلّد سيرته في صمت المتواضعين. لم يكن أستاذ عمارة فقط، بل كان عمارةً من الأخلاق تمشي، من تلك التي لا تحتاج زينة، بل تكفيها البساطة والنزاهة والدعاء. كان يمكن للمقال أن يكون سردًا لسيرة وظيفية: مهندس فلسطيني، دكتوراه من بريطانيا، رئيس قسم، عميد… لكن هذه البيانات لم تُنجب الحب، ولم تُنتج هذا التفاعل النادر. ما جعله حيًا، هو ما لا يُكتب في السيرة الذاتية:
– دعاؤه الصامت،
– صدقه في النية،
– حرصه على الجودة حتى في مشروعٍ لا يعرفه الناس،
– وسجوده الطويل في كل مشروع وهو يقول: “أسأل الله أن يقبل.”
ومن هنا جاء المقال، لا ليُرثي، بل ليُعيد الاعتبار: لطبقة نادرة من الرجال الذين لا يطلبون شيئًا، لكنهم يمنحون كل شيء. هو لم يطلب تكريمًا، فأتاه من سريلانكا. لم يكتب وصيته، لكن المصري أدّى عنه حق الذاكرة. لم يجمع المديح، لكن الإريتري جعله حديث الفكر والأدب.
لأنه، باختصار، صدّق وعده مع الله، فسُخّرت له القلوب.
وصدق من قال: “أعظم منجز للإنسان ليس عدد مشاريعه، بل عدد الأرواح التي تأثرت به دون أن تطلب منه شيئًا.” وهذا ما فعله محمد كيوان… حين أنجز مشاريعًا بأقل الميزانيات، لكن بأعلى الضمائر.ولأننا لا نكتب اليوم لأجل الذكرى فقط، بل لأجل المعنى، فإنّ هذا الرجل لم يُنسِنا الغياب، بل علّمنا أن الغياب لا يُهزم الحضور الصادق. وأن البناء لا يكون دائمًا في الهندسة، بل في النفوس. هذا المقال – الذي وُلد من تعقيبات محبّين – هو في جوهره مقال في إنسانية الأثر، في نقاء العلاقة، في معنى أن تكون مهمومًا بغيرك أكثر من نفسك، أن تعيش غريبًا وتموت نبيلاً.
وسلامٌ على محمد كيوان… سلامٌ على كل خطوة مشاها في أرض الله، وعلى كل طوبة وُضعت بإشرافه، وعلى كل طفلٍ عاش في دارٍ بناها من غير أن يعرف أن رجلاً اسمه كيوان مرّ هنا.
وسلامٌ على الذين لم ينسوه، لأنهم – في صدقهم – منحونا سيرة من نور، وحكمة من حياة، ومقالًا… لم يكتبه التاريخ، لكنه سيُكتب في الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وعندما حان وقت إنهاء المقال، وقبل أن تُطوى الفقرة الأخيرة، وصلني تعقيب نبيل من أستاذ جامعي مصري، لم يكن من المقربين إلى محمد كيوان، لكنه كتب من عمق من عاشر أمثاله فقال:
“هل يمكن جمع سِيَر هؤلاء الأبطال؟ أمثال عبد الرحمن السميط، وعبد اللطيف الهاجري، ومحمد كيوان، وغيرهم من الذين مشوا بين الناس بأقدام الرحمة، ولم تُنصفهم الشاشات ولا التصفيق؟ ليكون هذا الكتاب مرجعًا لكل من يعمل في العمل الخيري، وأمثالي ممن سمع عنهم وقرأ لهم، ولم يسعد بصحبتهم.”
كانت كلماته اقتراحًا، لكنها في القلب نداء. نداء لا لحفظ الأسماء فقط، بل لتوريث خُطاهم، وتخليد سرّهم، وتثبيت معانيهم في قلوب العاملين… ليبقى هذا الدرب مُضاءً بمن مشوا فيه بإخلاص، وسكنوا القلوب من دون استئذان. فلتكن الفكرة إذًا أكثر من أمنية: فلتكن بذرة كتاب، لا تُسطّر فيه السِّيَر لمجرد التوثيق، بل ليُصبح مرجعًا في النُّبل العملي، والمدرسة الصامتة التي بنت، وأعطت، ورحلت دون أن تترك وراءها إلا العطر.
فليكن هذا الكتاب، في عنوانه ومضمونه، درسًا في الوفاء، ومحرابًا لمن تأخر عن الركب ولم يحظَ بصحبتهم. ليكن اسمه مثلًا: “رجال صدقوا… سِيَر الأثر قبل سِيَر الذات”
أو “حين تُكتب السير من دموع القلوب لا من حبر الأقلام” كتابٌ تُروى فيه حياتهم كما عاشوها، لا كما أرادوا أن يُكتب عنهم… لأنهم ببساطة، لم يريدوا شيئًا. وإن فاتنا شرف لقياهم، فلعلنا نُرزق شرف خدمتهم بعد الرحيل… فإن لم ندركهم أجسادًا، أدركناهم بكتابات تليق، وأمانات نُؤدّيها، وألسنٍ لا تكفّ عن الدعاء. وما بين الذكرى والاقتداء،يبقى هذا المقال شهادة حقّ، وخارطة طريق، وبذرة لكتاب… إن كُتب، لن يُكتب مثله.
