|
Getting your Trinity Audio player ready...
|
الفجر الأول من 01 أغسطس 1988 لم يكن عاديًا. لم يكن في الأفق سوى خيطٍ من نور، وهدوء يوشك أن ينطق.كنتُ وحدي أمام الباب الذي سيفتح على رحلة العمر في العمل الإنساني والخيري والتنموي،
أحمل في داخلي يقينًا صغيرًا كفتيل شمعة، وأسمع قلبي يهمس:
“اليوم تبدأ رحلتك مع الإنسان، قبل أن تبدأ رحلتك مع العالم.” لم تكن الخطوة الأولى مجرد بداية وظيفة،
كانت هجرة روح، خروجًا من ذاتي إلى قلوب الآخرين. أدركتُ أن العمل الإنساني ليس مكتبًا ولا راتبًا،
إنه نداء داخلي يشبه الأذان في القلب: قم، فقد حان وقتك لتكون إنسانًا للآخرين.
على دروب آسيا… حيث القلوب تسبق الكلمات
أول رحلاتي كانت إلى آسيا… قارة ككتابٍ قديمٍ تتداخل فيه الحروف بالدموع.
• بنغلاديش فتحت لي أبوابها بوجوه أطفالٍ عراة الأقدام،
يضحكون من قلب العدم،
كأن الله جعل الضحك لغتهم الأولى والنجاة لغتهم الثانية.
• في القرى السيرلانكية والإندونيسية، كنت أعبر الأنهار الضيقة بزوارق خشبية مهترئة،
وأشم رائحة الطين ممزوجة بالأمل.
كل قرية تصلها مضخة ماء أو فصل دراسي أو عيادة أولية،كانت الأرض نفسها تبتسم،وأشعر أن كل حجرٍ يبارك هذه الخطوة الصغيرة في العمل الإنساني التنموي.
وكتبت في مذكرتي:“في آسيا تعلّمتُ أن الجوع لا يُلغي الفرح، وأن من يعمل لله وللإنسانية لا يحتاج خارطة؛
القلوب هي البوصلة.”
في قلب إفريقيا… حيث التراب أحمر كدم القلب
ثم أخذتني إرادة إلى إفريقيا… القارة التي لا يمكن أن تزورها دون أن تغيّرك. عند الغروب، كنت أرى السماء أوسع من قلبي، والأطفال يركضون خلف السيارات كأنهم يلاحقون الحياة نفسها.
• تنزانيا استقبلتني برائحة المطر على التراب الأحمر،
وهناك رأيت أول بئر حُفر بيدينا،
وحين اندفعت المياه، انطلقت الزغاريد كأنها صلاة فرحٍ تصعد إلى السماء.
• في جيبوتي والصومال، كنت أعلم أنني لا أقدّم طعامًا أو دواءً فقط، بل أقدّم وعدًا بالحياة والكرامة. كل يدٍ صافحتني كانت تقول بلا كلمات: “أنت لست غريبًا… أنت وعد الله لنا.”
وكتبت في مذكراتي:“في إفريقيا، التراب دم، والمطر رحمة،
والابتسامة أوسع من حدود القارات.
محطات كالجواهر على عنق الزمان
مع مرور السنوات، لم تعد الرحلة مجرد خطوات متفرقة،بل تحولت إلى نهر متصل من الأثر الإنساني:
• مؤسسات للعمل الإنساني والخيري والتنموي تأسست كالأشجار الراسخة، جذورها في الإخلاص، وفروعها في السماء.
• مشروعات اقتصادية واجتماعية جعلت العطاء مستدامًا،
تحوّل المتلقي إلى معطي، والضعيف إلى قادر.
• مدارس ومراكز صحية وآبار مياه
أصبحت علاماتٍ على خريطة العالم،
تشهد أن الخطوة الأولى في 1988 لم تكن حلمًا بل قدرًا جميلًا.
وكنت كلما قص شريط افتتاح مشروعٍ جديد، أشعر أنني لا أفتتح بابًا من حديد، بل نافذة أمل في قلب إنسان.
وكتبت في مذكراتي: “الأثر الحقيقي لا تتركه في الأرض بل في الأرواح،
والأعمال العظيمة ليست ما تبنيه من جدران، بل ما تبنيه من إنسان.”
حكم العظماء… صدى الرحلة في قلبي
رافقتني على الطريق كلمات خالدة،
تضيء لي ليالي التعب وتؤنسني في العزلة:
• علي عزت بيغوفيتش: “العمل للآخرين هو طريقنا إلى الله.”
• غاندي: “أعظم اختبار لأمة ما هو كيف تعامل أضعف أفرادها.”
• ابن القيم: “من أحبّ الله، أحبّ خلقه.” كنت أشعر أن هذه الكلمات تحملني حين تتعب قدماي، وتذكرني أن هذه الرحلة ليست سفرًا في الجغرافيا فقط، بل حجًّا في إنسانية البشر.
اليوم… بعد سبعة وثلاثين عامًا
ها أنا أصل إلى شاطئ ذكرى جديدة: 01 أغسطس 2025- ولله الحمد-
أنظر خلفي فأرى الطريق طويلاً،
لكنني لا أراه خطًا مستقيمًا… بل نهرًا متشعبًا، يروي قرىً وأرواحًا وذكريات.
• أطفالٌ كانوا حفاة، أصبحوا اليوم معلمين وأطباء.
• قرى عطشى صارت تغني للمطر والماء.
• مؤسسات إنسانية وخيرية صغيرة صارت أعمدة من نور تربط القارات باسم العطاء.
اليوم أدرك أن الخطوة الأولى لم تمت، بل تكاثرت كالأشجار في موسم الخير. وكتبت في خاتمة المذكرات:
“أيها القلب، احمد الله أنك لم تَسِر وحدك، بل سرتَ في قلوب الناس.”
ولأهل الوفاء نصيب من النهر
وإن كانت هذه المسيرة قد امتدت عبر القارات،فإن جذورها كانت في دعاء الوالدين أولًا؛ هما الركن الذي أسند القلب قبل أن يستند الجسد،
وهما البركة التي صحبت كل خطوةٍ في سفرٍ طويل، وكل نجاحٍ كان في جوهره ثمرة دعوة مستجابة عند فجرٍ صادق.
ثم جاءت الأسرة التي احتضنت غيابي وصبرت على رحلاتي، وأبناءٌ كانوا الدعاء الصامت الذي يسبق كل سفر، يتنفسون الصبر كما تتنفس الطيور انتظار موسم الهجرة. ولا يكتمل الوفاء دون ذكر قادة المؤسسة الذين منحوني القدوة قبل التعليمات،علّموني أن القيادة ليست أمرًا إداريًا فحسب،بل فنّ أن تضيء الطريق للآخرين دون أن تحجب عنهم السماء.
ثم يأتي شركاء التنمية وأصدقاء الطريق، من رجال ونساء ومجتمعاتٍ محلية، كانوا الأرض الخصبة التي نبت فيها هذا العطاء. كل مصافحةٍ منهم كانت عقد شراكة مع الله قبل أن تكون مع البشر، وكل ابتسامةٍ منهم كانت تقول: “ الأثر الذي تتركه فينا سيظل أطول من أعمارنا.”
خاتمة… عهدٌ يتجدد
هذه الذكرى ليست نهاية فصل،
بل صفحة جديدة في كتاب العمل الإنساني والخيري والتنموي:
• أعاهد الله أن أبقى مهاجرًا نحو العطاء.
• أعاهد الإنسانية أن تبقى يدي ممتدة بالخير.
• وأوصي الأجيال القادمة:
“ابدؤوا بخطوة صادقة واحدة…
فقد تصبح نهرًا يعبر القارات، كما عبرت خطوتي الأولى.”
