عمارة من الأخلاق تمشي

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

قالها صديقٌ يومًا بعد أن فرغ من قراءة مقالتي: “كأنني رأيت عمارة من الأخلاق تمشي بين الناس.” توقفت عند عبارته طويلًا، شعرت أنها ليست مجازًا عابرًا، بل لوحة فلسفية تختصر علاقة الإنسان بالعمران وبالحياة. فالعمارة في ظاهرها حجرٌ وحديد وزجاج، لكنها في جوهرها قيم، ذوق، فن، وحضارة. وكذلك الأخلاق… هي ليست كلماتٍ تُقال أو سلوكًا لحظيًا، بل بناء متكامل، له أساسٌ وجدران وواجهات، يُرى أثره من بعيد كما ترى قبة مسجد أو شرفة قصرٍ قديم.

العمارة الخفية للقلوب

حين تأملت العبارة، رأيت أن الأخلاق هي العمارة الحقيقية، بل هي العمارة التي تسير معك حيث سرت، لا تحتاج إلى أرضٍ لتُقام عليها، ولا أعمدةٍ لتحملها، بل هي عمارة تُبنى في الروح وتنعكس في التعاملات. كما أن العمارة لها واجهة تُعرف بها، فكذلك الأخلاق لها عنوان يطرق القلوب قبل العيون. كما أن العمارة تُخلّد حضارة، فكذلك الأخلاق تخلّد الإنسان في القلوب حتى بعد رحيله. وكما أن العمارة هوية الأمم، فكذلك الأخلاق هوية الأرواح، بها يُعرف المسلم الحقيقي كما يُعرف قصر الأندلس من قبابه ونقوشه. وقد قال النبي ﷺ: “إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم.” كأنه يذكّرنا أن الأخلاق وحدها يمكن أن تكون طوابق عالية في عمارةٍ لا يراها إلا الله والملائكة.

توازن الروح والحجر

العمارة ليست جدرانًا تُبنى فحسب، إنها لغة الأمم ورسائلها المرفوعة في السماء. فالأهرامات قالت للعالم: هنا أمة تعرف الخلود. وقباب إسطنبول قالت: هنا أمة تعبد الله بالجمال. ونوافذ الأندلس قالت: هنا أمة جمعت بين العلم والذوق والإيمان. وكذلك الأخلاق تقول بصمت: “هنا إنسان استقامت روحه قبل أن تتزين واجهته.” ولقد فهم العظماء هذا السر: قال الجاحظ: “الأدب صورة العقل.” وقال فيثاغورس: “الأخلاق عمارة الروح.” وقال ابن القيم: “الدين كله خُلق، فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الدين.” وهكذا التقت العمارة بالأخلاق في معنى واحد: الخلود عبر الجمال.

الإبداع بين الحجر والقلب

العمارة ميدان إبداع، يختلط فيه الفن بالعلم، والحساب بالخيال، وكذلك الأخلاق ميدان إبداع يمتزج فيه الحياء والوفاء والتواضع والكرم والتغافل وغض الطرف واللين والإصغاء وحسن الظن…مزيج بديع من ألوان السماء على جدران القلوب. والأجمل أن العمارة يمكن أن تسقط مع الزمن، لكن الأخلاق لا تهدمها الأيام، بل تبقى قصورًا خفية في ذاكرة من أحبّك بصدق.

 الأخلاق سفارة تمشي

في عصرنا، قد تكون العمارة سفارة للأوطان، فمطارٌ واحد أو برجٌ شامخ يعرّف الأمم للعالم. لكن الأخلاق هي السفارة الحقيقية للروح، تسافر معك بلا تأشيرة، وتفتح لك القلوب قبل المطارات. وقد رأيت في رحلاتي أن الإنسان يُعرف قبل أن يُقدّم جوازه، يعرف من سمت أخلاقه قبل نبرة صوته. تمامًا كما تعرف المدينة من ظل قبابها ومآذنها قبل أن تدخلها.

عمارة تبقى بعد الرحيل

اليوم، حين أتأمل العبارة التي ألهمت هذا المقال: “عمارة من الأخلاق تمشي” ابتسم وأقول: لعل أعظم أمنية للإنسان ليست أن يترك ناطحة سحاب، بل أن يترك ظلالًا أخلاقية تمشي بعده بين الناس، فالأمة التي تتقن فن الأخلاق، ستبني أعظم عمارة في التاريخ حتى لو كانت بيوتًا متواضعة، لأنها تبني ما لا تراه العيون وما لا تهدمه الأيام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top