الإنسان بين الميلاد والرحيل: الأثر الذي لا يموت

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

المقدمة

في كل لحظة على سطح هذه الأرض، يولد إنسان في زاوية مجهولة، ويرحل آخر في مكان آخر من العالم. ميلاد يتوّج بالدمعة الأولى، ورحيل يُختتم بالدمعة الأخيرة. وبين الدمعتين، تمتد حياة قصيرة، لكنها أعمق من أن تُقاس بالسنوات أو العقود. إنها حياة لا تحددها الأنفاس المعدودة بقدر ما يحددها الأثر الذي يتركه الإنسان بعد غيابه. إنها رحلة تبدأ بلا اختيار، وتنتهي بلا استئذان، لكنها في المسافة بين البداية والنهاية، تمنح لكل إنسان امتحانًا واحدًا: ماذا ستترك وراءك للعالم؟ هل ستصير ظلاً عابرًا يبتلعه النسيان، أم أثرًا خالدًا تردده الأجيال وتترسّمه القلوب؟

ذلك هو السؤال الذي لم ينجُ منه ملك ولا فقير، عالم ولا أميّ، فاتح ولا منفيّ. إنّه سؤال الإنسانية الخالدة: ماذا أبقى؟

الميلاد هبة لا تُشترى

يولد الإنسان عاريًا من كل شيء إلا من أمانة الحياة التي أودعها الله فيه. لا يختار اسمه، ولا بلده، ولا لغته، ولا ملامحه. كل ما يُمنح له في اللحظة الأولى هو الفرصة: فرصة أن يكون معنى لا مجرد جسد. في تلك اللحظة، يكون أشبه بصفحة بيضاء، قابلة لأن يُكتب عليها الخير أو الشر. فطرة نقية تُشبه المطر الأول حين يغسل وجه الأرض. وقد لخّص سقراط هذه الحقيقة حين قال: “الحياة غير المفحوصة لا تستحق أن تُعاش.” وكأن ميلاد الإنسان بذرة لفحص، لتأمل، لا لمجرد مرور.

إن الميلاد لا يمنحنا استحقاقًا تلقائيًا للمجد، بل يحمّلنا مسؤولية أن نصنع أثرًا يليق بكوننا خُلقنا مكرّمين. فليست القيمة في أنك وُلدت، بل في أن ولادتك صارت سببًا في ميلاد معنى جديد للآخرين.

الحياة امتحان الأثر

حين يكبر الإنسان، يدرك أن الحياة ليست سباقًا نحو جمع الثروات أو ارتقاء المناصب. فكم من ملوك وأباطرة ملأوا الدنيا صخبًا، وحين رحلوا لم يبقَ منهم إلا صفحات سوداء في كتب التاريخ. وكم من أناس بسطاء، لم تذكرهم نشرات الأخبار، لكنهم تركوا في قلب كل من عرفهم نورًا لا يزول. الحياة إذن امتحان للأثر:
• أثر في القلوب: كلمة رحيمة، ابتسامة ترفع همًّا، لمسة حنان تشفي جرحًا.
• أثر في الأرض: عدل يُقام، علم يُنشر، بناء يظل شاهدًا على أن إنسانًا مرّ من هنا.

ولعلنا نتذكر كلمة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين قال: “نحن قوم أعزنا الله بالعدل والإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.” إنها ليست كلمة في كتاب، بل دستور حياة. فالعزة لا تقاس بالقوة المادية وحدها، بل بالأثر العادل الذي يبقى بعدك. إن الذين يظنون أن مجدهم سيُخلدهم في الأبراج الشاهقة أو الثروات المتراكمة، واهمون. وحده الأثر الإنساني الصادق هو الذي يتجاوز حدود اللحظة ليعانق الخلود.

الموت لحظة العدالة المطلقة

يأتي الموت بلا إنذار، ولا يفرّق بين غني وفقير، بين زعيم ومتسوّل. لحظة واحدة تسقط فيها كل الأقنعة: المنصب، المال، السلطة، الشهرة. ويخرج الإنسان من الدنيا كما دخلها، عاريًا إلا من أثره. لقد عبّر الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن هذه الحقيقة بقوله: “الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.” وكأن الموت هو الاستيقاظ الحقيقي من وهم الدنيا. عندها، يدرك الإنسان أن ما جمعه من متاع زائل لا يساوي شيئًا، وأن ما يبقى له هو أثره في الناس والزمان.

الموت هو العدالة المطلقة، لأنه يسوي بين الجميع. فلا يشفع للظالم سلطانه، ولا يُنقص من المظلوم ضعفه. ويبقى الأثر وحده شاهدًا على عدل الإنسان أو ظلمه، على رحمته أو قسوته. فيا له من مشهد مهيب: مقبرة تضم ملوكًا وبسطاء في تراب واحد، لا فرق بينهم إلا بما زرعوه من أثر.

الأثر الذي يخلّد الإنسان

الأثر هو الخلود الذي لا يموت. قد تسقط الحضارات، وقد تنهار القصور، لكن أثر العدل والرحمة والعلم يبقى خالدًا. وليس أدل على ذلك من كلمات نيلسون مانديلا، الذي قال: “ما يهم في النهاية هو: هل أحدثت فرقًا في حياة الآخرين؟”
فالأثر ليس رفاهية، بل هو جوهر الوجود. الإنسان لا يُقاس بما أخذ من الدنيا، بل بما أعطى.
• طبيب أنقذ روحًا، ترك أثرًا لا يموت.
• معلم فتح نافذة المعرفة لطفل، ترك أثرًا لا يموت.
• عادل رفع الظلم عن ضعيف، ترك أثرًا لا يموت.
•الابتسامة البسيطة التي تُزيح وحشة عن قلب متعب، قد تكون أثرًا أبديًا.

الأمم التي عاشت بالعدل بقيت، والأمم التي ظلمت اندثرت، مهما بلغت قوتها. التاريخ لم يحفظ قصور فرعون، لكنه حفظ دموع المستضعفين التي صارت لعنة على ذكره. الأثر إذن هو بطاقة الخلود التي لا يملكها إلا من صدق في إنسانيته.

وختامًا، أيها العالم، أيها القارئ حيثما كنت، اسأل نفسك: ماذا سأترك بعدي؟ هل سأكون ذكرى طيبة تُسعد الأرواح، أم سطرًا منسيًا في كتاب الزمن؟ الحياة ليست أعوامًا تُعاش، بل أثرًا يُترك. والميلاد ليس بداية العمر، بل بداية مسؤولية. والموت ليس نهاية، بل إعلان نتائج الامتحان. فلنحرص أن نكتب في كتاب وجودنا أثرًا يليق بكرامة إنسانيتنا. أثرًا يجعل ذكراكم دعاءً على الشفاه، لا لعنة في القلوب. أثرًا يرفعكم عند الله، ويمنحكم مكانة في ذاكرة الأبد.

اللهم اجعل حياتنا نورًا لمن حولنا، وأثرًا يخلدنا بالخير بعد رحيلنا.
اللهم ارزقنا عدل عمر، وحكمة علي، وصبر مانديلا، واجعل قلوبنا أنهارًا من رحمة لا تنقطع. اللهم لا تجعلنا عابرين كظلّ بلا معنى، بل زارعين للأثر، صانعين للمعنى، خالِدين بذكرك وذكْر الناس لنا بخير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top