|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي
في قلب غزة، حيث تتداخل آلام الماضي مع آمال المستقبل، يقف الإنسان الفلسطيني شامخًا، كرمزٍ للصمود والحياة رغم كل الأزمات. هذه الأرض التي عاشت عقودًا من الحصار والتدمير، تستدعي اليوم من المؤسسات الخيرية، ومن القطاعين العام والخاص، أن يحوّلوا الرغبة في العطاء إلى خطة استراتيجية متكاملة لإعادة الإعمار والتنمية المستدامة. فالإعمار ليس مجرد إعادة بناء المباني، بل هو إعادة بناء الإنسان، وتمكين المجتمعات، وضمان استدامة الفرص. إن كل خطوة نحو التنمية في غزة يجب أن تكون مدروسة بعناية، مبنية على المعرفة والخبرة العالمية. فالأزمات المتكررة علمتنا أن المشاريع العشوائية، مهما بلغت ضخامتها، لا تحقق الاستدامة ولا تمكّن الإنسان من تحقيق ذاته. وهنا تكمن أهمية الحوكمة والامتثال للرقابة، ليس كقيد، بل كأداة لضمان أن كل دولار يُنفق، وكل مشروع يُنفّذ، يخدم الهدف الأسمى: رفاهية الإنسان الفلسطيني وخلق بيئة مستدامة للنمو الاقتصادي والاجتماعي. وكما قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال.” فالمعرفة والتخطيط السليم هما رأس المال الحقيقي لإعادة إعمار غزة بفاعلية واحترافية.
التنمية البشرية والتمكين الاجتماعي
إن التنمية لا تُقاس بعدد الأبنية المشيّدة، بل بقدرة الإنسان على النهوض من جديد. في غزة، يحتاج الأطفال والشباب والنساء والفئات الأضعف إلى فرص تعليمية ومهنية حقيقية، تتجاوز الكوتة التقليدية للمساعدات، وتفتح أمامهم آفاقًا للنمو والابتكار.برامج التعليم المهني والتقني، وريادة الأعمال الاجتماعية، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ليست رفاهية، بل هي ركيزة أساسية لاستقرار المجتمع وتمكينه. يمكننا الاستفادة من حكمة مانديلا حين قال: “التعليم هو أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم.” فحين نستثمر في التعليم والمهارات، نخلق قدرة على الاعتماد على الذات، ونبني اقتصادًا مقاومًا للصدمات، ونُعيد الأمل لملايين المواطنين. ويكمن سر النجاح في الشراكة الذكية بين المؤسسات الخيرية والقطاع الخاص والدولة، مع وضع مؤشرات أداء واضحة والامتثال لمعايير الشفافية والحوكمة. حينها فقط، يصبح التمكين واقعًا حيًّا لا شعارًا متكررًا.
مساحات لا يراها الجميع
ربما يرى البعض أن المرحلة الحالية لا تزال طور الإغاثة، وأن المساعدات الإنسانية ستستمر لأشهر قبل ترتيب استحقاقات الدول المانحة في الإعمار. وهذا صحيح من زاوية الواقع الميداني.لكن الخطر الأكبر أن تبقى العقول محصورة داخل هذا الإطار الإغاثي الضيق، فتضيع الأشهر الذهبية التي يمكن أن تُستثمر في التخطيط للمستقبل.وهنا يبرز البعد في التفكير وفق نظرية المحيطات الزرقاء، أي الخروج من مناطق التنافس والتكرار إلى مساحات جديدة من القيمة والابتكار الإنساني، تلك المساحات التي لا يلتفت إليها أحد، لكنها تصنع الأثر الأكبر.يمكن لهذه النظرية أن تتحول إلى منهج عمل إنساني في غزة، يخلق “محيطات زرقاء” من الفرص في خضم الأزمات، مثل: تحويل المساعدات النقدية المؤقتة إلى صناديق دوّارة تدعم مشروعات صغيرة. تأسيس مدارس إنتاجية مجتمعية تمزج بين التعليم والعمل.
بناء صناعات خيرية صغيرة تعيد تدوير الموارد وتولّد وظائف محلية.
إطلاق برامج للابتكار الاجتماعي تستثمر قدرات الشباب في حلول تكنولوجية وإنسانية لغزة.بهذه الرؤية، ننتقل من الإغاثة الاستهلاكية إلى الإعمار الذكي المنتج، ومن انتظار التمويل إلى ابتكار القيمة، ومن ردّ الفعل إلى المبادرة الخلّاقة. إنها فلسفة تحوّل الأزمة إلى فرصة، والاحتياج إلى مورد.
البنية التحتية الذكية والاستدامة البيئية
إعادة إعمار غزة لا يمكن أن تتحقق بدون بنية تحتية ذكية ومستدامة.
المباني، الطرق، شبكات المياه والطاقة، يجب أن تُبنى وفق رؤية تحافظ على الإنسان والبيئة معًا. فالبنية التحتية ليست مجرد هندسة في الأسمنت، بل هندسة في البقاء.
ينبغي أن تُدمج في كل مشروع مبادئ الطاقة النظيفة، وإعادة التدوير، والنقل المستدام، والزراعة المائية، مع التخطيط المسبق لتقليل الانبعاثات وحماية الموارد للأجيال القادمة. وهنا، تظهر الحاجة إلى حوكمة دقيقة تضمن الاستخدام الأمثل للموارد، وتحقيق الكفاءة، ومنع أي هدر أو فساد.فالفقر ليس نقصًا في المال، بل نقص في الفرص، والبيئة الذكية هي التي تخلق فرصًا من داخل الأزمة نفسها. وبهذا تصبح غزة نموذجًا عالميًا في الإعمار البيئي الإنساني، لا ضحية أزمة متكررة.
الاقتصاد المقاوم والمشاركة المجتمعية
التنمية المستدامة تتطلب اقتصادًا قادرًا على مقاومة الصدمات، ومجتمعًا يشارك بفاعلية في صياغة مستقبله.لذا، يجب أن تركز الخطة على خلق فرص العمل، دعم الصناعات المحلية، وتمكين الشباب والنساء من الانخراط في سوق العمل بكرامة وعدالة.هذه العملية لا تنجح دون حوكمة قوية ورقابة دقيقة، تضمن أن المشاريع ليست رمزية أو دعائية، بل ذات أثر واقعي على حياة الناس.ومن الأقوال التي تعكس روح هذا التمكين: “التعليم ليس شيئًا يُقدَّم لك، بل شيئًا تكتسبه لتغيّر به حياتك وحياة مجتمعك.”
فتمكين الإنسان هو الغاية الكبرى؛ أن يصبح فاعلًا في إعمار وطنه، لا مجرد متلقٍّ للمساعدات.
الشراكات الفاعلة والمسؤولية الأخلاقية
نجاح أي خطة مستدامة يعتمد على الشراكات المتينة بين القطاعين العام والخاص والمؤسسات الخيرية.
كل طرف يقدم خبرته وموارده، بينما تضمن الحوكمة والرقابة عدم تكرار الأخطاء السابقة. هذا النموذج يعزز المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية لكل مشارك، ويجعل الإعمار استثمارًا في الإنسان والمجتمع لا في الحجر فقط. كما أن دمج آليات التقييم المستمر والشفافية المطلقة في تقارير الإنجاز، يجعل من كل مشروع تجربة مفتوحة أمام الرقابة الشعبية والإعلامية، ويخلق ثقة عامة في المنظومة.وكما قال ابن خلدون: “العدل أساس العمران.”
فالعدل في توزيع الموارد والفرص هو الذي يضمن استقرار التنمية ودوامها على المدى الطويل.
خارطة الطريق للمستقبل
إعادة إعمار غزة مسؤولية جماعية، تتجاوز حدود المؤسسات الخيرية لتشمل المجتمع المدني والقطاع الخاص والدولة.الخطة المستدامة ليست مجرد رؤية، بل خارطة طريق عملية تتكامل فيها محاور تمكين الإنسان، تطوير البنية التحتية، تعزيز الاقتصاد المقاوم، وضمان الاستدامة البيئية والاجتماعية.كل خطوة تُتخذ اليوم، وكل استثمار يُوضع بحكمة ومسؤولية، هو لبنة في صرح غزة الجديدة:غزة الحية، الآمنة، القادرة على النمو والازدهار رغم كل التحديات.ولعل الدرس الأهم من التاريخ ومن عظماء الإنسانية أن الاستدامة الحقيقية تبدأ من التخطيط الحكيم، والحوكمة الراشدة، واحترام الإنسان كمركز لكل جهود التنمية.فلنجعل من هذه الخطة منارةً تنير دروب الإعمار الإنساني في العالم، ونقطة انطلاق لمستقبل أكثر إشراقًا، وأملًا مستدامًا، وفرصًا حقيقية لكل فلسطيني يعيش على هذه الأرض الصامدة.