|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

من قلب التجربة، ومن ضمير المسؤولية، نطلق هذا النداء:
سجّلوا ما أنجزتم، واكتبوا ما عشتم. لا تتركوا الأثر عرضةً للنسيان، ولا تودعوا الجهد في أدراج الإهمال. فالأثر لا يُخلّده الكلام، بل يحفظه التوثيق، وما من جهد يُصان، ولا من خبرة تُورث، ولا من منجز يُبنى عليه، إن لم يُوثّق بعينٍ واعية وقلمٍ صادق.
في عالمٍ تتسارع فيه الخطى، وتتشابه فيه الملامح، يبقى التوثيق هو الفارق الذي يحفظ المعنى، ويمنح التفاصيل حقها من الوجود. ليس التوثيق عملًا إداريًا باردًا، ولا مهمةً هامشية مؤجلة، بل هو ضميرٌ حيٌّ يسجل، ووفاءٌ عميق لا ينسى. هو الشاهد الذي لا يتعب، والصوت الذي لا يخفت، والذاكرة التي لا تخون. إننا حين نوثّق، فإننا لا نكتب فقط ما حدث، بل نمنح الحدث عمرًا إضافيًا، وفرصةً لأن يلهم، ويُعلّم، ويُستفاد منه. وليس أعظم في هذا الباب من قول الإمام عليّ بن أبي طالب: “قيدوا العلم بالكتابة.” فكيف بالجهد والخبرة والتجربة؟ أوليس التوثيق هو صورة من صور العلم النافع؟ أوليس إهماله تفريطًا في ميراثٍ لا يُعوّض؟ إن الأمم التي تبني ولا توثّق، تكتب على الرمل، وكل منجز غير موثق كأنه لم يكن، وكل درس لم يُسجّل فهو قابل للتكرار.
التوثيق لا يعني تسجيل الوقائع ببرود، بل هو فن من فنون الوفاء، يلتقط التفاصيل كما هي، ويحفظ للأفراد جهدهم، وللمؤسسات هيبتها، وللمشروعات روحها. هو في جوهره، اعتراف بالفضل، وإيمان بأن ما يُبذل يستحق أن يُروى، لا أن يُنسى. فحين نوثّق، فإننا نكرّم الفعل، ونرتقي بالفعل، ونصون الذاكرة من التبدد. وأي ذاكرة لا تسندها وثيقة، تظل عرضةً للتحريف أو النسيان أو المصادرة. ويُروى عن عمر بن الخطاب قوله: “احفظوا ما يكون من الناس، فإنه لا يُعرف الحق من الباطل إلا به.”، وفي هذا إشارة بالغة إلى أثر التوثيق في حفظ العدل والحق والمعنى. فليس التوثيق مجرد أرشيف، بل هو ركن في صرح العدالة، ودليل على النضج المؤسسي، ومنهج لصناعة الفارق بين مؤسسات تعيش بالذاكرة، وأخرى تموت بالتكرار.
ومن تأمل سِيَر العظماء، علم أنهم لم يصلوا لما بلغوه إلا لأن من جاء قبلهم وثّقوا، وكتبوا، وخلّدوا المعرفة والأثر. ولو لم يُدوَّن تاريخ الحضارات، وسِيَر الأنبياء، ومجالس العلماء، لبقينا نعيد اختراع العجلة كل جيل. التوثيق هو جسرنا إلى الماضي، وزادنا نحو المستقبل، ومرآتنا التي نراجع بها أنفسنا. إن المؤسسة التي لا توثّق، هي مؤسسة تضع نفسها في مهبّ الريح؛ تعتمد على الذاكرة الشفوية، وتُسلم الخبرة للضياع، وتعيد ارتكاب الأخطاء نفسها. بينما المؤسسة التي تجعل من التوثيق سلوكًا يوميًا، لا مناسبة طارئة، هي التي تبني عقلها المؤسسي، وتُحسن اتخاذ القرار، وتُقيم الأداء على أساس لا يهتز.
فبفضل التوثيق: تحفظ مساهمات الأفراد، ويصان جهدهم من الذوبان في الزحام. تنتقل الخبرات من يد إلى يد، ومن قلب إلى قلب، فلا يبدأ كل فريق من جديد، بل يُكمل من حيث انتهى من سبقوه. يُبنى التقييم على أساس من الواقع، لا على ظنون أو انطباعات. تصان الذاكرة من التبدد، وتُجسّد الشفافية كقيمة، لا شعارٍ للاستهلاك. ويُمارَس الاحتراف كمنهج دائم، لا اجتهاد عابر. ليس المطلوب أن نكتب تقارير مطوّلة بلا روح، بل أن نكتب ما يلزم، ونسجّل ما يستحق، ونعطي لكل مرحلة وثيقة تحكيها، وتضيء طريق من يأتي بعدها. فليس كل ما يحدث يستحق النشر، لكن كل ما له قيمة يستحق الحفظ، وكل ما له أثر يستحق الرواية.
ونقول بلسان الحكماء: “ما لم يُكتب كأن لم يكن”، وإننا مسؤولون لا عن العمل فحسب، بل عن أثره، ومساره، ونقله للأجيال. إننا حين لا نوثّق، فإننا نسمح بتآكل الخبرة، ونساهم – ولو بغير قصد – في أن تبدأ كل البدايات من جديد، بكل ما في ذلك من هدر، وتكرار، وخسارة. فليكن التوثيق جزءًا من ضميرنا المهني، لا عبئًا على كاهلنا. وليكن فعلًا واعيًا، نمارسه في وقته، لا بعد فوات الأوان. وليكتب كل واحدٍ منّا فصله في قصة المؤسسة، وبصمته في سجل العطاء، وإسهامه في الذاكرة الجمعية.
ونداؤنا: لا تتركوا قصة بلا رواية، ولا تجربة بلا درس، ولا منجزًا بلا سجل. وثّقوا، فإنّ التوثيق حياةٌ أخرى للجهد، وضمانٌ أول للمستقبل.
وثّقوا، فإن الكلمة تسبق الزمان، والوثيقة تُقاوم النسيان. وثّقوا، فمن لم يكتب أثره، كتب عليه أن يُعاد من بعده من الصفر. وختامًا، كما قال سقراط: “الحياة غير المدروسة لا تستحق أن تُعاش.” نقول: والجهد غير الموثّق… لا يكتمل ولا يُستدام.