|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

في مطلع الألفية الثانية، وبينما كانت رياح التغيير تهبّ على المنطقة من كل صوب، واجهت مؤسسة رائدة في العمل الخيري بأحد الأقطار الآسيوية أزمة تضييق مفاجئة من السلطات المحلية، بدا المشهد متلبدًا بغموض السياسة ومفاجآت التشريعات، حتى خُيّل لبعض المراقبين أن الأبواب تُغلق واحدة تلو الأخرى، وأن هامش الحركة يضيق كما تضيق الأنفاس في صدور العابرين.
لكن ما يميز القيادة الحكيمة أنها لا تتعامل مع الأزمات كـ”كوارث” بل كمنعطفات قدرية تُمتحن فيها المبادئ وتُصقل فيها المعادن. فبادرت القيادة العليا بعقد اجتماع طارئ مع المكتب الرئيس، وكان الهدف واضحًا منذ اللحظة الأولى: لا خوف، لا فوضى، بل تحليل دقيق، وقراءة معمقة للمشهد، ثم تشخيص للأسباب وتوزيع للأدوار، تشكل فريق إدارة الأزمة من أصحاب الخبرات المتكاملة، ثم انطلقت مرحلة التخطيط الاستراتيجي لوضع خطة طوارئ تراعي كافة السيناريوهات الممكنة، لم تكن الخطة مجرد استجابة ظرفية، بل نموذجًا ناضجًا في الحوكمة الأخلاقية، حيث تزامن فيها العمل المؤسسي الاحترافي مع البعد الروحي الإيماني. ولم يكن هذا المزج عبثيًا، بل كان نهجًا مستقرًا في المؤسسة، إذ صدر التوجيه لكافة الكيانات داخل القطر وخارجه باللجوء إلى الله تعالى، والتضرع إليه في الأسحار، والقيام بين يديه بقلوب منكوبة، وأفئدة موقنة بأن الفرج بيده وحده.
وهنا يحضر في المشهد طيف الرافعي، حين قال: “إذا ضاق صدر الإنسان، ولم يسعفه البشر، كان في السجدة سرٌّ لا يعلمه إلا من ذاق طعم اللجوء.” ولقد ذاقته القيادة، فكانت كل ليلة تقوم للتهجد، وكأنها ترابط على ثغور السماء تنتظر وعد الفرج، وفي كل سجدة كانت تتساقط الأحمال، وتنهمر الدموع، ويتشكل القرار في عرش الرحمة قبل أن يترجمه الواقع، وفي موقف يُخلّد في سجلات الوفاء، ما لبث عدد من الموظفين أن بادروا تلقائيًا، وبدون توجيه من أحد، باقتطاع جزء من رواتبهم دعمًا للمؤسسة في هذه المحنة، وكان في ذلك اقتداءٌ بجيل الصحابة الذين إذا سمعوا استغاثة أخٍ لهم في الشدة، أجابوها بعرق الجبين لا بضجيج العبارات. وهنا يعود بنا العقّاد إلى فكرته الخالدة: “إن الأخلاق في الأمم الحية ليست زينة تُعلّق على الصدور، بل هي وقود يُشعل الطاقات، ويثبت في وجدان الجماعة قبل أن يُكتب في دساتيرها.”
وهكذا كانت هذه المؤسسة حيّة بمبادئها، متزنة في مساراتها، راسخة في بوصلة القيم. ولم تكن النتيجة سوى ما وُعد به الصادقون: انكشفت الأزمة، وانفرجت الطرق، وصدرت قرارات بتوسيع الصلاحيات وتجديد الثقة، بل واحتفاء رسمي غير معلن بحكمة المؤسسة، التي لم تواجه الضيق بالصراخ، بل واجهته بالتخطيط والصبر والقيام. لقد أثبتت هذه الحلقة أن الأزمة ليست ما يحدث، بل كيف نواجه ما يحدث. وأن أركان القوة في المؤسسات ليست فقط في أدواتها، بل في قلوب رجالاتها، وفي السجدة الصادقة التي تُفتح بها أبواب الأرض كما تُفتح بها أبواب السماء
يتبع…
ولئن كانت هذه الأزمة على صعيد الداخل المؤسسي، فإن ما سيأتي أعجب، حيث امتدت يد العسر إلى الساحة الدولية، ومُدّت إليها في المقابل رايات الوفاء من مؤسسات خارجية رفيقة، فكيف تُدار العواصف إذا اجتمعت السياسة، والتشويه، والخذلان؟
إلى ذلك، نلتقي في الحلقة الخامسة من “سفراء القيم في ساعة العسر”