|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

في عالمٍ يتغير بوتيرة متسارعة، لم تعد الحاجة إلى العطاء محصورة في الفقر أو الكوارث، بل باتت تمتد إلى أوجه الخلل في الفكر، والقصور في الرؤية، والسطحية في التنفيذ. ولأن كل فكرة، مهما كانت سامية، إن لم تجد قيادة رشيدة تُحوّلها إلى واقع، فإنها تبقى حبيسة الأمنيات.
لقد آن الأوان لإعادة تعريف العمل الخيري، ليس كاستجابة لاحتياج، بل كقوة استراتيجية لتغيير الواقع. وهنا يظهر الفارق الجوهري: فالمؤسسات الخيرية التي تنجح، ليست تلك التي تقدم أكثر، بل تلك التي تقود بحكمة، وتبني بالأثر، وتصمد بالمنهج. يقول مانديلا: “العمل الخيري ليس ما تفعله بيدك، بل ما تتركه في قلب من ساعدته”. وهذا المعنى العميق لا يتحقق إلا بقيادة تتقن التوازن بين العاطفة والاحتراف، بين النية الطيبة والرؤية البعيدة.
القيادة: من الإلهام إلى الإنجاز
ليس كل من ترأس مؤسسة خُيّرية قائدًا، فالقائد الحقيقي ليس مجرد صانع للقرارات، بل صانع للاتجاهات. القيادة الرشيدة في السياق الخيري تُلهم، لكنها أيضًا تخطط، وتراقب، وتُقيّم. تُعلي من قيمة الإنسان، وتحرص على ألا تُطفئ حرارة الرحمة جذوة الانضباط المؤسسي. الفرق بين العطاء العشوائي والعطاء المؤسسي، كالفرق بين المطر والسيول. المطر يسقي الأرض فينبت الخير، بينما السيول تندفع بقوة، لكنها لا تبني شيئًا. والمؤسسات الخيرية التي تنجح على المدى البعيد، هي تلك التي تمطر أثرًا مستمرًا، لا التي تُحدث ضجيجًا موسميًا.
قال ستيف جوبز ذات مرة: “الابتكار يميز القائد عن التابع”، وإننا لنرى هذه القاعدة تنطبق بوضوح على المؤسسات الخيرية التي خرجت من إطار التكرار إلى مساحات الإبداع، فباتت تبني مدارس، ومراكز تدريب، وتقنيات للتمكين، بدلًا من الاكتفاء بالمساعدات الوقتية.
التمكين: النقلة النوعية
ما من قيادة رشيدة في العمل الخيري إلا وتدرك أن العطاء الحقيقي هو الذي يحرر الإنسان من الحاجة إلى العطاء. فالأيدي التي تعطي اليوم، لا بد أن تُفكر كيف تمكّن اليد الأخرى من العطاء غدًا.
المؤسسات التي تظل رهينة تقديم الإعانات فقط، مهما كان حجمها، تُدير أزمة لا تنهيها. أما التي تُعيد بناء الإنسان فكرًا، ومهارةً، وكرامةً، فإنها تصنع تحولًا جذريًا لا يُشترى بالمال، ولا يُقاس بالأرقام. وهنا يكمن جوهر القيادة: في أن تؤسس منظومة تعرف متى تتدخل، ومتى تتراجع، ومتى تترك للمجتمع أن ينمو بأجنحته لا بعكازه.
نموذج إفريقي: التقنية كوسيلة للعدالة
في شرق إفريقيا، نشأت مبادرة صغيرة على يد نساء شابات تطمحن لكسر دائرة التهميش التي تطال النساء في قطاع التقنية. كانت البداية بسيطة، لا تتعدى فصلًا دراسيًا في أحد الأحياء، ولكن بقيادة واعية تحمل رؤية، تحولت المبادرة إلى مؤسسة رائدة، لم يكن طموحهن توزيع فرص، بل خلق بيئة تُعيد للفتاة قدرتها على بناء مستقبلها. اليوم، خريجات المؤسسة يعملن في شركات تقنية كبرى، وبعضهن عدن لتأسيس مبادرات مماثلة في دول أخرى. ما يُميز هذا النموذج ليس التمويل، بل القيادة. قيادة اختارت أن تُعطي الفرصة لا الصدقة، وأن تُراهن على التعليم والتمكين لا الإعالة.
نموذج من شبه القارة الهندية: من العشوائيات إلى القيادة المجتمعية
في إحدى مناطق شبه القارة الهندية، نشأت مؤسسة تعمل في صمت ضمن الأحياء المكتظة التي تُغلفها الهشاشة والاحتياج. لم تبدأ بتوزيع الطعام أو الملابس، بل بدأت بسؤال بسيط: “ماذا يريد هؤلاء ليغيروا حياتهم؟”. كانت الإجابة مفاجئة: يريدون أن يُنظر إليهم بكرامة، وأن يُمنحوا فرصة لتعليم أطفالهم، وأن يُتاح لهم التدريب المهني بدلًا من الاكتفاء بالمساعدات. استجابت القيادة لتلك الأصوات، لا بالوعود، بل بإعادة هيكلة برامجها بالكامل. فبدلًا من حملات الإغاثة، دشنت مسارات مستدامة للتعليم، وأقامت مراكز تدريب، وأطلقت برامج تمويل صغير للنساء. خلال عقد من الزمان، لم تتحول الحيّات فقط، بل تحوّل السكان أنفسهم إلى قادة مجتمع، يديرون مشاريعهم بأنفسهم، وينقلون التجربة إلى مناطق أخرى.
هذه المؤسسة، التي تُفضل أن تبقى بعيدًا عن الضوء، تُجسّد المعنى الحقيقي للقيادة الرشيدة: قيادة تُؤمن بأن بناء الإنسان هو أعظم استثمار، وأن الكرامة لا تُعطى، بل تُستعاد.
الختام: القيادة الخيرية… عبور نحو المستقبل
ليست القيادة الرشيدة في العمل الخيري ترفًا تنظيريًا، بل ضرورة وجودية. فالعمل الخيري في زمن الأزمات ليس كما كان في زمن السكون. والمجتمعات لا تنتظر من يُطعمها فقط، بل من يُعيد لها أدوات النهضة. حين تقود المؤسسات الخيرية بعقلٍ يفكر وقلبٍ ينبض، فإنها تصنع طريقًا جديدًا للعطاء: طريق لا يُعبد بالمال وحده، بل بالرؤية، والإرادة، والعدل. ولعل أجمل ما يُقال في هذا السياق هو قول المهاتما غاندي: “أفضل وسيلة لتجد نفسك، هي أن تُكرّس نفسك في خدمة الآخرين.” لكننا نضيف: حين تُكرّس نفسك في خدمتهم بذكاء، لا بعاطفة فقط.