|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

لم يكن أكثر أهل القرية يتخيّلون أن ذلك الاجتماع البسيط، الذي انعقد تحت شجرة «المورنغا» في أقصى جنوب الوادي، سيغيّر حياة الآلاف، ويؤسّس لما ستصبح لاحقًا واحدة من أنجح التجارب الإفريقية في إدارة المشاريع التنموية.
كانت المؤسسة حديثة العهد. لا تملك أكثر من شغف أهلها، وسؤالًا واحدًا ظلّ يتردد: كيف نبني مشروعًا يبدأ من احتياج الناس، لا من توقعات المانحين؟
فبدأوا من القرية… من بئرٍ معطّلة، ومدرسة بسطورها الأولى، ومركز صحي لا يملك إلا سماعة طبيب.
كان المشروع بسيطًا، لكنه حمل في قلبه مواصفات عميقة:
• محليّ المنشأ
• مجتمعيّ المشاركة
• متواضع التمويل
• واضح الأهداف
• سريع الأثر
لكنهم، وهم يحفرون البئر، كانوا يسجّلون. وهم يخطّون جدار المدرسة، كانوا يوثّقون. في كل جلسة تخطيط، كان ثمة دفتر مفتوح وذاكرة تقاوم النسيان. كان أول درس أدركوه أن: المشروع الذي لا يُفهم، لا يُنجز. والمشروع الذي لا يُوثّق، لا يُبنى عليه. بعد نجاح القرية، انتقلوا إلى المدينة. وهناك، تغيّرت ملامح المشاريع:
• لم تعد بئرًا، بل شبكة مياه.
• لم تعد غرفة صفية، بل مدرسة متكاملة.
• لم تعد قافلة صحية، بل وحدة طبية مرخصة.
تغيّرت لغة التنفيذ، وتوسّعت قاعدة الشركاء، وبدأت مؤشرات الأداء تظهر على شاشات العرض في المكاتب.
لكن المبادئ لم تتغير:
• التوثيق اليومي
• التخطيط بالمشاركة
• التقييم الواقعي
• والقيادة الميدانية
في المدينة، بدأ التحدي الحقيقي. فالمجتمع لم يكن متماسكًا كأهل القرية، والتحديات القانونية والسياسية أكثر تعقيدًا. لكن المشروع، بحجمه الجديد، تطلّب أدوات جديدة، وهيكلًا إداريًا يُواكب النطاق:
• وحدات متخصصة (مالية، لوجستية، متابعة)
• تقارير مرحلية
• خارطة مخاطر
• ووثائق مرجعية تصف المشروع بكل تفصيل
ثم جاء اليوم الذي عُرض فيه المشروع في العاصمة…أمام وزراء، وسفراء، ومنصات إعلام. لم يكن ثمة استعراض مبالغ فيه، بل عرضٌ للوثائق، وأرقام، ونماذج قابلة للتكرار.
قال أحدهم: “ما يميّزكم ليس حجم المشروع… بل عمق التوثيق، ووضوح التخطيط، وشرف البدء من حيث لا أحد يبدأ.” ففي العاصمة، صار المشروع سياسات، واتفاقيات، وشراكات على مستوى الوطن.
صار يُدرّس في الجامعات، وتُدرج منهجيته في استراتيجيات وطنية.
وقد كتب أحد مؤسسي المشروع في تقريره النهائي: “بدأنا من القرية لا لأننا نهوى البساطة، بل لأن الحقيقة تبدأ من هناك. وبنينا للمستقبل لا بالكلمات، بل بالوثائق التي كتبت كل خطوة، وسجّلت كل قرار، وربطت كل حلم بميزانية.”
وهكذا، لم يكن المشروع مجرد فكرة تم تنفيذها… بل قصة تم توثيقها، وخبرة تم تحويلها إلى إطار، وواقعٍ صار نموذجًا إفريقيًا يُحترم. وهنا تكمن الرسالة: المشروع لا يُقاس بحجمه، بل بقدرته على التطور دون أن يفقد هويته. ولا يُخلَّد بالأثر فقط، بل بالتوثيق الذي يجعل منه مرجعًا.
ومن لا يبدأ صغيرًا بحكمة، لن يُحسن النمو. ومن لا يكتب ما يفعل، لن يُعرف ما فعل.