على مائدة الفتح”حين اجتمع الصيام والدعاء والمودة”

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في مساء الاثنين الثالث والعشرين من يونيو 2025، اجتمع الحُب في وعائه الأصفى… صيامٌ، وأخوّة، ونيةٌ طيّبة سبقت اللقاء بأيام. لم تكن دعوةً عابرة إلى مائدة طعام، بل نداءٌ لطيف استقر في القلب، وسكن فيه قبل أن تُعد له الأطباق. كانت المائدة باسم “عاشور”، والقلوب ممتلئة باسم الله، والأرواح تتقاطع في لحظة من لحظات البركة، حيث لا يجتمع الصائمون على طعام فحسب، بل على عهدٍ يتجدّد، وسكينةٍ لا تُشترى.
أحمد عاشور، الأخ الأكبر، صاحب اليد المبسوطة بالكرم، تولّى زمام الدعوة والتنسيق، وكأنّه يقول: “المحبة مسؤولية”. ومعه محمود عاشور، بعفويته وابتسامته وحضوره الخفيف، كانت الثنائية كأنّها لحن منسجم في نوتة بيتٍ واحد. لم تكن الفكرة وليدة الساعة، بل إصرارٌ مضى عليه أسبوع، يترقّب اللحظة الأنسب، يتجاوز الزحام، ويقاوم الالتزامات، حتى استقرّ القرار على الاثنين… يوم الصائمين، ويوم عاشور.

كان الجدول مثقلاً، لكنّ القلوب أبت إلا أن تعطي للمحبة وقتًا، وللصيام ختمًا جميلًا، وللبيت العاشوري احتفالًا خاصًا بلا بهرجة. المتابعة كانت دقيقة، ومداولات “ما نأكله” لم تكنه همك ترفًا، بل مدخلاً إلى تفاصيل تُظهر عناية الأخ الكبير وحرصه على راحة الجميع. اتُّفق على المشويات، لا لأنها أسهل، بل لأنها الأليق بمزاج الصائم، وبهيبة مائدةٍ يُفتَح فيها الصوم بالدعاء قبل أن تلامس اليد الخبز.

في الخامسة والربع، بدأت الحكاية تأخذ شكلها الواقعي. حضرت الثنائية الأولى: أحمد عاشور ومحمود تهامي، لقاءٌ فيه وقار الحديث ودفء الأخوّة. وما لبثت الثنائية الثانية أن اكتملت بوصول محمود عاشور ومحمد طنطاوي، فصار الجمع أربعة، على نية واحدة: أن يجتمعوا كما يجتمع الأتقياء، على طعامٍ مبارك، وقلوبٍ لا يفرّقها مشهدٌ ولا ظرف.

أذّن المؤذن، وفُتحت المائدة على التمر السكري المفتول، وجرعةٍ من القهوة العربية، كأنّها تسبق الأذان بأمنية. لم تكن القهوة مشروبًا بل طقسًا، إعلانًا أن هذا اللقاء ليس عابرًا. ثم ركعة المساء، وسكينة المغرب، وكان الإمام يقرأ بما يُلائم اللحظة… وربما لم يسمعه كثيرون لأنّ قلوبهم كانت تسبح في مكان آخر، حيث الدعاء، ححهحككقبل الصلاة، دار حديث عن الساحة الخليجية، أخبار تتقاطع فيها السياسة والرجاء، وكلُّ شيءٍ فيها يقول: اللهم احفظ بلادنا، واحمِ أهلها. ثم الصلاة، تلك التي تنقلك من صخب الكلام إلى سكون الصف، ومن فتنة الدنيا إلى سكينة بين يدي الله.

أما المشويات… فكانت سيمفونية متكاملة. دجاجٌ على الفحم، كأنّه تشرّب الطيب قبل النار. كفتةٌ ذات توازن في النكهة، لا تغلبها التوابل ولا تخونها النضارة. ريشٌ من التكة تُضرب لها الأمثال، وخبزٌ إيراني يعلن الحياد بين كل هذه المذاقات. ثم طبق مخلل صامت لكنه حاضر، وشيبسي بطاطس أضاف لمسةَ المزاج الطفولي الذي لا يخجل من الحنين.

جاءت الفاكهة على هيئة بستان متنقل. تفاحٌ أحمر كابتسامة اللقاء، برقوقٌ يقطر عذوبة، مشمشٌ رقيق، خوخٌ ذو جلدٍ مخملي، وموزٌ يذكّرنا ببركة الأرزاق. لم تكن الفاكهة للختام، بل لبداية أخرى، عنوانها النقاء.

ثم جاءت الجولة الثالثة، شايٌ وقهوة عربية، وفولٌ سوداني، تكتمل به جلسة السمر، وتتداخل معه أخبارُ الداخل والخارج. الدعاء كان سيد الجلسة، ليس بصوتٍ عالٍ، بل بنداءاتٍ رقيقة تتسلل عبر الواتساب من يدٍ تُحب. “اللهم احفظ البلاد والعباد”، دعاءٌ ليس روتينًا، بل حائط صدٍ أمام توجّسات العالم.

في لحظة، رنّ الهاتف… كانت الحاجة أم أحمد عاشور، قلب البيت النابض، تتصل لتطمئن. صوتها في أذن أحمد، كان أشبه بمباركة خفية، كأنّها تُرسل عبر أسلاك الهاتف بركة تُظلّ الجالسين، ودعاءً يُكتب في كتابٍ لا يضيع. ثم عادت الجلسة إلى شكلها العملي: ورش عمل، متابعة ملفات، تشاور في الخطوات القادمة. لم تكن الرفقة كسالى، بل رجالٌ يعرفون أن المتعة لا تنفصل عن المسؤولية. وفي غمرة كل ذلك، سُحبت السجادة، وقُرئ الفتح. ركعتان من محمود تهامي، توسّلًا لله بالحفظ، ودعاء بأن يجعل هذا البلد آمنًا.
قرأ الإمام من سورة الفتح، وكأنّها نزلت خصيصًا في هذا المساء، في هذه الجلسة، على هؤلاء القلوب. “إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا”… فخشعت الأرواح، وارتجف في القلب وعدٌ من السماء. لكن من أجمل ما بقي في الذاكرة، تلك السعادة التي ارتسمت على وجوه أهل البيت العاشوري. كأنهم لا يملكون إلا الدعاء لأهل بيتهم… فتفيض القلوب بكلمات لا تُقال، بل تُلمَح. لم يكن اليوم اجتماعًا، بل معراجًا. لم تكن المائدة مجرد طعام، بل عَقدًا أخويًا تُجدد فيه النية، وتُعقد فيه القلوب على الوفاء.قال أحد الحكماء: “إذا اجتمع الصيام والدعاء، والمحبّة والنية، فذلك يومٌ لا تنساه الملائكة.”

وها نحن، في مساء عاشور، شهدنا يومًا كهذا. لا شيء أعظم من أن تختبر معنى القرب… لا بالكلمات، بل بالمواقف. لا بالعدد، بل بنوع الحضور. ولا بالمائدة، بل بما تبقّى منها في القلب. ولعل هذا هو السر… أن المائدة الحقيقية لم تكن في صحن، بل في سعة صدور، وصفاء نوايا، وخطوة صادقة نحو الله.
فشكرًا لعاشور، أحمدًا ومحمودًا.
وشكرًا للزمان الذي اجتمع فيه الصفاء بالدعاء. وما زالت سورة الفتح تُتلى، في بيتٍ فتح الله له أبواب البركة…ولعل القادم أجمل، ما دامت النية حاضرة، والقلب طاهرًا، والدعوة كريمة. ما “وجعلنا على مائدةٍ واحدة، قلوبًا لا تعرف إلا النور.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top