حين تهتزّ الجغرافيا… من يحمي المعنى؟

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في زمن لم تعُد فيه الأحداث مجرد وقائع سياسية، بل صدمات وجدانية، نُفاجأ بأن السؤال الأهم ليس: ماذا يجري؟ بل: ماذا يُفعل بالمعنى حين تهتزّ الجغرافيا؟

منطقة الخليج العربي، هذه الرقعة التي كانت تُوصف طويلاً بأنها بحر من الاستقرار في محيطٍ من التقلّبات، تجد نفسها اليوم أمام مرايا قلقة، تُعيد طرح ذاتها من جديد: من نحن؟ وما الذي يستحق أن نبقيه ثابتًا حين تهتزّ الأرض تحتنا؟

الخليج… أكثر من خريطة

من قال إن الخليج هو مجرد تجمع نفطي أو ثقل اقتصادي؟ الخليج هو نسيج ذاكرة مشتركة، وتاريخ مغموس في البداوة والحكمة، ومجتمع إنساني بناه الصبر والمروءة قبل أن تبنيه ناطحات السحاب والموانئ. فحين تلوح في الأفق بوادر أزمة – أكانت سياسية، أمنية، أم حتى نفسية – فإن السؤال الأهم لا يكون عن تدابير الردع، بل عن عمق الترابط، وصدق المصير الواحد. في الخليج، لم تكن الأخوّة شعارًا، بل آلية وجود… مرّت الأزمات واختلفت الرؤى، لكن ظلت هذه الأرض تؤمن بأن الدم لا يُكذّب، والجار لا يُنسى، والماء واحد، والسماء واحدة، والمآذن تدعو لذات الرحمن.

حين ترتجف الجغرافيا

كل منطقة في العالم قد تهتز، لكن حين ترتجف جغرافيا الخليج، فالعالم بأسره يصاب برجفة:
رجفة اقتصاد، رجفة استقرار، وربما… رجفة ضمير. فأي زلزال في الخليج – سياسيًا أو وجدانيًا – يذكّرنا أن الاستقرار ليس مادة تُستورَد، بل معنى يُصان. وأن الأمن الحقيقي لا يُقاس بعدد الجنود، بل بعدد الأيادي الممتدة بالعطاء، والقلوب التي ما زالت ترى في الإنسان إنسانًا، لا رقمًا في نشرة.

في زمن الفتنة… لا تبحث عن العدو بل عن الأصل

في هذا العالم المزدحم بالتحليلات، نحتاج أحيانًا إلى أن نكفّ عن سؤال: من معنا؟ ومن ضدنا؟ ونعود لسؤال أكثر نقاءً: من نحن؟ ومن الذي نُريد أن نكونه حين يُكتَب التاريخ من جديد؟هل نُريد أن نُعرَف بمن ردّ على الأزمة بأزمة، أم بمن سَكّن الهلع بالحِكمة؟ هل نُريد أن نحيا بدوام الخوف، أم نبني نظامًا جديدًا من الثقة، تبدأ فيه السياسة من القلب، وتنتهي عند مصلحة الشعوب لا أوهام السُلطة؟

رسالة من الخليج إلى العالم: لسنا حقلًا، نحن قلب

إن الرسالة التي يجب أن تخرج اليوم من الخليج، لا ينبغي أن تكون بيانًا دبلوماسيًا، بل وصية حضارية تقول:
نحن لسنا رقعة نفطية يُعاد رسمها حسب المزاج العالمي، نحن شعوبٌ تنبض، وبيوتٌ عامرة بالمحبة، وقلوبٌ تنكسر إذا كُسر الجار، وتدمع إذا ضاع الأمان. الخليج ليس مائدة للمصالح، بل قلبٌ للمنطقة، وضميرٌ يُفترض أن يُحترم لا أن يُختبَر.

ماذا تبقّى لنا؟

تبقّى لنا الرحم العربي الذي لا ينبغي أن ينقطع، وتبقّى لنا البيت الخليجي الذي يجب ألا يُخدش سقفه، وتبقّى لنا الناس… أولئك الذين لا يظهرون في نشرات الأخبار، لكنهم يبكون في صمت حين ترتفع حدة التوتر. هؤلاء هم من نكتب لهم هذا المقال، ومن أجلهم نقول: ردّوا الفتن، ولو بالكلمة. ادفعوا الشرّ، ولو بالنية. وحافظوا على المعنى، قبل أن نحافظ على الجغرافيا.

خاتمة الدعاء… لا السياسة

اللهم إن في الخليج قلوبًا تخاف وتُحب، وأُسَرًا تبني وتنتظر، وأوطانًا أُريد لها أن تكون منارات، لا ميادين صراع. اللهم لا تكتب لهذا الخليج فتنة، ولا تُرِنا فيه بأسًا يُبكينا، اللهم اجعل خيره على العالم، وشر العالم لا يصل إليه. اللهم كما جمعت أهله في نعمة، فأدمها، وإن أصابهم ما يُرجفهم، فكن لهم كما كنت لأهل السفينة: هادٍ حين تضل البوصلة، وساترٌ حين تشتدّ العاصفة، وربٌّ لا يُخيب من قال: حسبنا الله ونِعْم الوكيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top