|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

جلس الوالد على الكنبة نفسها التي جلس عليها عشرات المرات. لم يكن في البيت شيء جديد، سوى شهادة تخرّج موضوعة بعناية على الطاولة، ووجهٌ مشرق لابنه الذي أنهى قبل أيام رحلة دراسية طويلة في كلية طب الأسنان، إحدى كليات الجامعة العريقة. ذلك النوع من الوجوه الذي لا يُطفئه التعب، بل يشعّ من داخله توقٌ لحياةٍ لم تبدأ بعد.
ولأن الحب أحيانًا يختبئ خلف الأسئلة، بدأ الأب حواره بنبرة هادئة، أشبه بنداء صلاة الفجر.
– “ابني… حدّثني، ماذا جرى بعد اتصال الشركة؟”
كان الابن قد تحدّث عرضًا عن مقابلة ستُجرى مع شركة تخصصها بعيد قليل عن طب الأسنان، لكنّها – بحسب كلامه – “تفتح مجالًا وتكسب خبرة.” وحين ذكر رقمًا قريبًا من 400 دينار كويتي كراتب مبدئي، لم يقاطع الأب الحديث. لكنه سجّل الملاحظة، ووضعها بين القلب والعقل، كما اعتاد طوال حياته.
نظر إليه الابن بحماسٍ يحاول أن يخبئ قلقه، وقال:
– “أجريت المقابلة، بدأوا بي مع الـHR، سألوني عن الخلفية، عن الطموح، عن الاستعداد. ثم اجتمعت مع فريق التسويق، وأكدوا لي أن بيئة العمل مشجعة، وفرصة التعلم حقيقية، وأنهم سيبدأون بعرض مؤقت قبل التثبيت.” سكت لحظة، ثم أضاف بثقة:
– “أنا فقط أردت أن أخطو. أردت أن أبدأ. أشعر أني جاهز. لا أريد أن أكون عبئًا، ولا أن أبقى في البيت وأنا أحمل هذه الشهادة.” ابتسم الأب ابتسامة لا تُقرأ بسهولة. فيها فخر، وفيها تحفظ، وفيها أيضًا شيءٌ من الحذر الذي لا يُولد إلا في قلوب الآباء الذين شابت رؤوسهم من صدق التجارب.
قال بهدوء:
– “حبيبي، أنا أفهم دوافعك تمامًا. ما بين يديك ليس ورقة، بل جهد عمر. وأنت، ما شاء الله، لا ينقصك العلم، ولا الأدب، ولا الطموح. لكن دعنا نتحدث لا كأب وابنه… بل كرجلين، أحدهما جرب الطريق، والآخر يقف على أعتابه.”نظر إليه الابن بشيء من التوتر، كأنه يخشى أن يسمع ما يفسد سعادته.
– “أتعرف، يا بني، ما يؤلمني؟ أن كثيرًا من المؤسسات تنظر للموظف لا كقيمة، بل كفرصة. فرصة للاستغلال، لا للاستثمار. حين يقدّم شاب مثلك، متعلم، متفوق، خريج من جامعة مرموقة، ويُعرض عليه مبلغ لا يوازي ثمن ساعة استشارة واحدة، فاعلم أن الموازين قد اختلت.” سكت الأب قليلاً. ثم استأنف حديثه، وعيناه تلمعان بنبرةٍ من العدل والمرارة معًا.
– “أنت أردت أن تدخل الميدان، وهذا جميل. أردت أن تعتمد على نفسك، وهذا رجولة. أردت أن تخفف من أعبائي، وهذا برٌّ لا يُشترى. وأنا أقدّر ذلك كله. لكن في غمرة حرصك على أن تبدأ، غاب عنك شيء ثمين… وهو أنك لست وحدك من عليه أن يعطي.”
– “المؤسسة يا ولدي، ليست قِبلة نُقبل عليها صاغرين، بل عقد بين طرفين متكافئين. فيها حقوق، وفيها واجبات. والمؤسسة التي لا ترى في موظفيها إلا أرقامًا، ولا ترى في شهاداتهم إلا ديكورًا، لا تختلف عن السوق الذي يبيعك بثمنٍ بخس، مهما كانت قيمتك الحقيقية.”
صمت الابن، متأثرًا، لكنه مشوّش قليلًا، فتابع الأب بنبرة أوضح:
– “أنا لا أقول ارفض، ولا أقول انتظر المعجزات. لكني أطلب منك شيئًا واحدًا: لا ترخص نفسك. لا تجعل حرصك على العمل، يغلب حرصك على الكرامة. صدقني يا بني، القليل من الناس يفهم أن الكفاءة ليست مجرد ورقة، بل مزيجٌ من أخلاق، ومهارات، واستعداد للنمو. وأنت تملك هذه الثلاثة. فلا تقبل بأقل من مؤسسة تفهم هذا.” أطرق الابن رأسه قليلًا، كأنه يعيد التفكير، أو يعيد صياغة الموقف من جديد في عقله.
قال الوالد بهدوء يقطر حكمة:
– “تعلمت من الحياة أن الكفاءة والأمانة جناحا الرزق. فإن غابت إحداهما، سقط الميزان. والمضحك المبكي، أن بعض المؤسسات حين تجد الشاب النزيه، تعتبره سهل الانقياد. وحين تجد الطموح، تختبره في حائط الراتب. وهذا ظلم يا بني… وظلم من نوع لا يترك كدمات، لكنه يترك وجعًا في النفس لا يزول بسهولة.” ثم أضاف بنبرة فيها مزيج من الحزم والحب:
– “قبل أن تدخل مؤسسة، اسأل نفسك سؤالًا: هل يرون فيّ كفاءةً قابلة للتنمية، أم فرصةً لتقليل التكلفة؟ وإن لم تجد الاحترام قبل العرض، فلا تنتظر التقدير بعد العقد.”
ابتسم الابن بخجل، وقال:
– “والله لم أكن أرى الأمر بهذا الوضوح… أردت أن أبدأ فقط.”
فأجابه الأب، وهو يربت على كتفه:
– “والبداية التي تُكسر فيها نفسك، قد تجرُّ معها نهاية لا تليق بك. ابحث عن المكان الذي ترى فيه نفسك مضافةً، لا مستهلكة. واعلم أن كثيرًا من المؤسسات الناجحة هي التي آمنت أن المورد البشري ليس سلعة، بل شريك.” قال سقراط ذات مرة:
“اعرف نفسك، تكن أعلم الناس.”
وأنا أقول لك: اعرف قيمتك، تكن أصدق الموظفين.
ولم تكن هذه الجلسة درسًا، ولا محاضرة. كانت تمرينًا على التفكير الناضج، بين جيلين… واحدٌ يمضي، وواحدٌ يبدأ، وكلاهما لا يريد للكرامة أن تُداس، ولا للجهد أن يُستغفل.
في ذلك المساء، لم يتغير الراتب، ولم تُلغَ المقابلة. لكن شيئًا عميقًا استيقظ في عقل الابن، وشيءٌ من الطمأنينة وُلد في قلب الأب.وفي قلب الحوار، كان الدرس: أن قيمة الإنسان لا تُقاس بما يُعرض عليه، بل بما يرضى أن يُعرض له. وأن كل مؤسسة لا تضع على طاولتها “مسطرة عدل” بين المورد والمكان… هي مجرد سوق، لا أكثر.
ولعل التاريخ لم يكتب من قبل هذا النوع من الحوارات… لكن الأبناء في زمننا يحتاجونها، كما تحتاجها المؤسسات… قبل أن تغرق في بحر الغفلة، وتخسر أجود ما فيها: الإنسان.