|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

كانت الهجرة في ظاهرها فرارًا من أذى، وفي باطنها تأسيس أمة. وكانت كأنها قصة رجلين في غار، لكنها في حقيقتها خارطة طريقٍ لحضارةٍ خالدة. لم يشهد التاريخ حدثًا تنصهر فيه الإنسانية والقيادة، العبقرية والبساطة، الرهبة والرحمة، كما شهد في تلك الأيام التي هاجر فيها محمد ﷺ، لا كمن يسلك طريقًا نحو النجاة، بل كمن يفتتح سِفْرًا من الرُقيّ الإنساني والتجديد الحضاري.
لم تكن مكة مجرّد موطن، بل كانت ذاكرة الطفولة، ومسقط الحلم، وجذر الروح. ومع ذلك، حين آن وقت الرحيل، لم ينظر النبي ﷺ إلى الوراء بنقمة، بل بعين المحب الموجوع، وقال لمكة قولاً لا يُقال إلا لأمٍّ تُنتزع من صدر قلبك: “والله إنك لأحبُّ بلاد الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت”. هل رأيتم قائدًا يقول هذا وهو مطارد؟ رأيتم عظيمًا لا يلعن موطن ظلمه؟ إنها القيادة حين تمشي بلا ضغينة، وتبني بلا أنقاض. القيادة التي خرجت من بيتها في الهزيع الأخير من الليل، واختبأت في غارٍ ضيّق لا يقي من سُمّ أفعى، كانت تكتب دستورًا جديدًا للعالم: لا تبنوا دولكم بالحقد، لا تردّوا الظلم بظلم، ولا تستعجلوا النصر، فالنصر لا يُولد بالصراخ، بل بالصبر الطويل، وبحكمة لا يضيع منها قطرة.
في الغار، حيث لا ضوء إلا من الله، ولا سلاح إلا اليقين، سكن النبي وصاحبه. وخاف الصدِّيق أن يُبصرهم العدو، فقال كلمته التي نعرف، وردّ عليه الحبيب ﷺ: “يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟”. في هذا المشهد، قال العقّاد: “كان إيمان محمد كأنّه الجبل، لا تهزّه الريح”. إنها القيادة حين توزّع الطمأنينة، ولو كانت على شفير الموت. ثم تنطلق القافلة، لا تملك إلا خريطة الإيمان، وبعض التمر، وناقةً تستأجر دليلاً غير مسلمٍ ليقودها. ما أعجب هذا التواضع وما أعمق هذا النُضج! أليس هذا هو جوهر القيادة الرشيقة التي تُحسن قراءة الواقع؟ القيادة التي تعرف أن العدو ليس كل غيرك، وأن الحق لا يُنصر بالعشوائية، بل بالتدبير، والتفويض، والشراكة الذكية.
وحين كان سُراقة يطاردهم، وغاصت قدما فرسه، ناداه النبي ﷺ بكل سكينة: “كيف بك يا سراقة إذا لبستَ سواري كسرى؟” لم يكن هذا وعدًا بالخلاص فحسب، بل كان إعلانًا بأن القيادة الحقيقية ترى ما بعد الهزيمة، وتبصر المجد وهي في الرماد. وقد تحققت نبوءته، وجاء سراقة بعد سنوات، يسلم، ويلبس سواري الملك الكسروي، ليعرف العالم أن التاريخ لا يُكتب بالسيف، بل بالحكمة. ولما دخل المدينة، لم يبنِ النبي مسجدًا فحسب، بل بنى دولة، تقف على ثلاث ركائز: الأخوّة، والعدالة، والشورى. كانت القيادة في قلب رجل، لكنها صنعت قلب أمة. كتب الرافعي: “في قلب كل عظيمٍ شعلةٌ لا تُرى، لكنها تهدي الشعوب في ظلامها”. هكذا كان محمد ﷺ، لا يخطب كثيرًا، بل يعمل كثيرًا. لا يعد إلا بما يستطيع، ثم ينجز ما لا يتخيله أحد.
هذه الهجرة لم تكن انتقالًا مكانيًّا، بل كانت تحوّلًا نوعيًّا في معنى القيادة. كانت الهجرة من التسلّط إلى التشارك، من الصراخ إلى البناء، من الفرد إلى المؤسسة. كانت بيانًا سماويًا في قالب إنساني، تقول فيه السماء للبشر: هكذا يقود من أراد أن يُصلح، لا أن يتسلّق. وإن كان في زماننا قائد كهذا، لقالوا عنه مثاليٌّ لا يصلح للواقع، لأنه لا يُساوم ولا يتشنّج، ولا يبيع المبادئ في سوق السلطة. لكن الحقيقة أن أعظم القادة لا يصرخون، بل يُغيّرون. لا يُشبهون ضجيج الشاشات، بل يُشبهون صوت الأمهات في آخر الليل: حنونٌ، قويّ، يعرف متى يطبطب، ومتى يقرّر.
إن الهجرة تعلمنا أن القائد لا يقود برجليه، بل برؤيته. أنه لا يسير أمام الناس فحسب، بل يسكن في قلوبهم. أن التغيير ليس في هزّ الرايات، بل في بناء الإنسان. أن القيادة الراشدة لا تصرخ “أنا هنا!”، بل تترك أثرًا يقول: “لقد مرّ من هنا قائد… فاستيقظ الضمير، ونهض البناء”. إننا اليوم بحاجة إلى هجرة أخرى، لا نحو مكان، بل نحو قيم جديدة: من التسلّط إلى الرحمة، من القمع إلى التمكين، من الاستهلاك إلى البناء. بحاجة إلى من يعيد تعريف القيادة، لا كموقعٍ إداري، بل كرسالة أخلاقية. القيادة التي مشت حافيةً على رمال الهجرة، كانت أعظم من أن تُختزل في شعار، أو تُحبس في كتاب. كانت حدثًا إنسانيًا لا يتكرّر، ومثالًا راشدًا لمن أراد أن يقود وهو يحمل قلبًا، لا سوطًا. من أراد أن يبني وهو يزرع في النفوس، لا يهدم في الأرواح.
إننا لا نكتب عن الهجرة إذًا لنتذكّر، بل لنُبصِر. لأن الطريق ما زال طويلاً، والرمال لا تزال ساخنة، والقلوب تفتّش عن قائدٍ يُشبه تلك الخطوات، التي مشَت في الليل بلا ضوء، لكنها أوقدت ضوءًا لكل ليلٍ بعده.