|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

ليست كل المساجد سواء… بعضها يُصلي فيه الناس، وبعضها تصلي فيه الأرواح. في إسطنبول… مدينة المآذن والحنين، مدينة سلاطين كانت تؤمن أن بناء المسجد ليس طوباً يُكدس، بل رسالةٌ تُغرس… كان فندقي مطلاً على حيّ قديم، وأمام بابه مباشرة، كأنما القدر اصطفى لي الطريق، مسجدٌ عريقٌ لا يُروّج له السائحون، لكنه لا يُخطئه أهل السكينة. خرجتُ قبل الفجر، والمدينة لا تزال نائمة… سكونٌ يليق بما سيُولد بعد قليل. النسيم بارداً برحمة، لا بقسوة. والشوارع مغسولة بندى خفي، كأنها توضأت معنا قبل الصلاة.
المسجد شامخٌ في بساطته، مهيبٌ في صمته، يحمل من عبق المعمار العثماني ما جعلني أتنهد بقول: “هكذا كان الحرمين قبل أن تطغى عليهم الفتنة الإسمنتية.” قبة تنساب بانحناءة لا شائبة فيها، مئذنة واحدة لكنها تُغني عن عشرة، والزخارف تتحدث لا لتُبهر، بل لتُهذب.
دخلت… فأحسست أنني لا أدخل، بل أُستقبل. لا رائحة قديمة، لا سجاد باهت… كل شيء نظيفٌ كما لو أن ملائكةً تمسح كل حجر. المصاحف مرصوصة كأنها بانتظار من ينقذ قلبه… والمصلون القلائل، كلٌّ منهم بلباسٍ بسيط وجوارب نظيفة كأنما النقاء يبدأ من القدم قبل القلب.
وبين الأذان والإقامة، لم يكن الوقت فارغًا كعادة بعض المساجد…
بل تراتيل عالية بنغمة تركية شجية…
“يس والقرآن الحكيم”… سُورَةٌ تُرتل كأنها تعيد صياغة العالم قبل طلوع الشمس. رجالٌ في زوايا المسجد يتهامسون بالأوراد، لا يرفعون أصواتهم… بل يسندون ظهورهم إلى جدران الطمأنينة، يا سبحان الله… أهذه هي “راحة المؤمن في الدنيا” التي حدّث عنها ابن القيم؟أم أنها السكينة التي إذا نزلت على قوم… نامت الدنيا من حولهم؟
لم تُقم الصلاة سريعًا… بل أُخرت حتى قبيل الشروق…وهنا فهمتُ المعنى المخبوء في سنة الإبراد:
أن لا تُغلق باب السماء سريعًا…
أن نترك للقلوب وقتًا لتتنفس…
في الركعة الثانية… رفعتُ رأسي من السجود، فمرّ نورٌ خافت من نوافذ المسجد وأحسست كأن النور يقول لي: “كل من سجد هنا… عاد خفيفًا إلى الحياة.” وبعد الصلاة، لا أحد قام مسرعًا. كلٌ بقي في مكانه، إما يقرأ، أو يردد الأذكار، أو يُحدّق في النقش العثماني على القباب.
خرجتُ، فإذا بنسائم الفجر تُداعب روحي لا وجهي…وكأن الضحى يتهيأ ليبدأ من هنا…من هذا المسجد الذي لا يحوي حشودًا، لكنه يحوي نُدرةً لا تُشترى.
في إسطنبول، يفتن الزائر بآيا صوفيا، ويُبهر بجامع السلطان أحمد، ويقف مذهولاً أمام قبر أبي أيوب الأنصاري… لكن ما لا يقال كثيرًا:
أن الله قد يجعل في مسجدٍ مجاور، من الفتح ما لا تجده في ألف معلم.
تذكرتُ مقولة جلال الدين الرومي:
“إذا نظرتَ بقلبك… فإنك سترى الله في كل شيء.” وهنا… رأيته في البساطة، في النظافة، في التأخير البريء للصلاة، في ترتيل “يس”، وفي وجوه لا تحمل من الدنيا إلا بقايا دمعة وموعدًا مع الغيب.
هكذا يكون الفجر…وهكذا تُكتب المقالات التي لا تُنسى… وهكذا يُجاورك المسجد لا لينبهك بالآذان… بل ليحضنك.
هل شهد التاريخ مثل هذا؟
أحسب أنه لم يشهد. وإن شئت، أمددتُه بخاتمة خفيفة تعرج على “كيف يمكن أن يكون هذا المسجد نواة لمبادرة تأهيل الأرواح في وقتٍ تاهت فيه الطمأنينة”، أو تُلحقه بتغريدة أو رسالة مسائية تليق بجمال المقال.