|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

لم يكن المجلس الخيري ذاك اليوم إلا ساحة عميقة من الحوار، حيثُ اجتمعت القلوب على مقاعد النوايا، وتحركت الأفكار كنسائم تعبر بين ظلال الأشجار البعيدة، تُنذر بقطافٍ لم يُكتب بعد. وحين وقف أحد الأعضاء يطرح مقترح “تأهيل المزارع …….”، لم يكن يتحدث عن زراعة أرض بقدر ما كان يبعث الحياة في مفردة “الاستثمار الإنساني”.
لم تكن نبرته تحمل اندفاعاً أجوف، بل جاءت كمن يروي تربة عطشى، متأملاً أن تنبت فيها فرصٌ جديدة للكرامة والعمل والتكافل، حيث يرى في الفلاح التركي شريكًا إنسانيًا قبل أن يكون عامل إنتاج. لكن الجلسات لا تكتمل إلا حين تنعقد السحب وتتشكل الأسئلة. وهنا، انبرى أحد الحاضرين، نبيهًا، يقظًا، يسأل بمنطق المؤسسة: “من منّا من المجلس متخصص في الزراعة؟ من سيتابع هذا المشروع؟ من يُقوّمه؟”. سؤال مشروع، بل جوهري. فالمبادرات لا تُسقى بالعاطفة وحدها، ولا تُطلق لمجرد الحماسة.
ابتسم صاحب المقترح، كمن خبر العطاء في صبر الأرض، وقال: “قد لا نكون متخصصين، لكننا نستطيع أن نفتح الأبواب للتخصص. لسنا بحاجة لأن نحمل المعول بأيدينا، بل أن نحفر المبدأ في صدورنا، ثم نبحث عن أصحاب الأدوات ممن يتقنون الزرع والرعاية والتقويم”. كلماته لم تكن جواباً فحسب، بل كانت تربية في هيئة رد. فلربما التخصص يُطلب، لكن الإرادة تُولد قبل أن تُدرّس. قال ابن خلدون: “العمل الذي لا تُزَكِّيه الإرادةُ يظلُّ أمنيةً لا مشروعًا”.
كان الحضور يتقلب بين الرأي والرأي الآخر، بين ما يُقال في العلن وما يلمع في الضمير. من أنكر جدوى المشروع لم يُرد الإحباط، وإنما أراد الإحكام. ومن دافع عنه لم يكن يدافع عن الفكرة بقدر ما كان يحيي نهجًا: أن الخير لا يُختزل في المعونات، بل يُصاغ في الفرص، ويُروى بماء الكرامة.
جلس الجميع، وصمتت القاعة قليلًا… لا استسلامًا، بل تأملًا. وكانت أعينٌ من خلف المداخل تتابع، لعلها تتعلّم كيف تُدار المجالس حين يحتدم القول ولا تُهدر القيم.
لأنّ أعظم ما في المجالس ليس القرارات، بل “الطريقة” التي تُصاغ بها. هي التهذيب في الرد، والرفق في التباين، والتقدير للمبادرة ولو خالفتنا، كما قال ابن القيم: “ما وُضِع الرفق في شيءٍ إلا زانه، وما نُزِع من شيء إلا شانه.” من ذلك اليوم لم يكن مجرد اجتماع. بل كان درسًا في فن الإصغاء واحترام الاجتهادات، واعترافًا بأن التخصص مطلوب، ولكن لا يجوز أن يُسجن فيه الخير. ثم إن ما بين صاحب المقترح ومعارضيه، لم يكن خصومة، بل “تباين نبيل”، يحكمه تقدير المقاصد، لا تثبيت المواقف. وفي الختام، لم يُحسم القرار، لكن شيئًا ما تغيّر في وجدان المجلس. فقد باتت الزراعة رمزًا للفرص الهادئة التي تنتظر من يُحسن إنباتها، والمزارع التركي لم يعد شخصًا في مقترح، بل صار رمزًا لإنسان ينتظر أن تُروى كرامته قبل أن تُروى أرضه. وهكذا تُكتب لحظات التأسيس الحقيقية… لا بالحبر فقط، بل بالصدق، والخلاف الرشيد، والتاريخ الذي يُصنع من مواقف لا تُروى، بل تُثمر.