محمد كيوان… العمارة التي سكنت الإنسان

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في الزحام المعتاد للمناصب والدرجات العلمية، يمرّ كثيرون، ويُنسى كثيرون، لكن بعضهم لا يكتفي بأن يُدرّس، أو يُصمّم، أو يُشرف… بل يترك في كل لحظة أثرًا، وفي كل مشروع قلبًا، وفي كل حجرٍ بصمة.

كان الدكتور محمد كيوان – أستاذ العمارة ورئيس قسمها بجامعة دكا – واحدًا من هؤلاء القلائل. بل كان، في سيرته ومسيرته، تجسيدًا نادرًا للمعادلة الصعبة: أن يكون الإنسان بناءً ومبنيًا… أن يبني الحجر، ويبني الروح، ويبقى في الذاكرة كصرح لا تهدمه السنوات.

وُلد محمد كيوان فلسطينيًا، لا من حيث الجغرافيا فقط، بل من حيث الموقف، والانتماء، والحلم الذي لا يذبل. لم تكن فلسطين عنده مجرّد قضية، بل كانت فلسفة حياة. وحين اختار أن يشقّ طريقه العلمي في بنغلاديش، لم ينسَ لحظةً ملامح حيفا، ولا خفقة القدس، ولا الوعد الذي قطعه على نفسه أن يعود. لم يُضِع بوصلته، بل علّقها في صدره، حتى وهو في الممرات الطويلة لجامعة دكا، وحتى وهو في قاعات المؤتمرات الهندسية، وحتى وهو يوقّع على مشاريع الخير. كان دائمًا يردد: “أبنائي يدرسون في فلسطين… مهما طال الغياب، فقلبي لا يعرف المنفى.”

وفي تلك الجملة وحدها، تلخيصٌ لرجل لم تهاجر روحه، وإن طال به السفر. جاء محمد كيوان إلى بنغلاديش شابًا يافعًا، يطلب العلم. فارتقى من الثانوية إلى كلية الهندسة، ثم أستاذًا ومعيدًا، فحاز الدكتوراه من بريطانيا، ليعود لا مأسورًا بالشهادة، بل مشغولًا بالرسالة. صار عميدًا، ومربيًا، وقائدًا، لكن روحه بقيت كما عرفها طلابه من أول يوم: مزيجًا من التواضع الرفيع، والحكمة الدافئة، والمحبة الصادقة.

ولم يقف عطاؤه عند أبواب الجامعة… بل امتد إلى عالم الخير بأكمله. في واحدة من أروع الشراكات التي عرفها العمل الخيري، قدّم د محمد كيوان خلاصة عقله وروحه كمستشار هندسي لمؤسسة رائدة في ميدان البر، لم يكن فيها موظفًا ولا متعاقدًا، بل شريك قلب وموقف. أشرف على عشرات المشاريع التعليمية والصحية والتنموية، وساهم في دراسات تسويقية في التسعينات كانت تسبق زمنها، وجاب البلاد في رحلات استطلاعية لا تُنسى، وكان يضع على كل مشروع طابعًا لا يُنسخ: دراسة وافية، وفريق هندسي متمكن، ومخططات متقنة، لكل مشروع تبلغ تكلفته من 2000 دينار كويتي. وكان لا يرضى إلا بالكمال. لا يوقّع دون مراجعة، ولا يقبل تقريرًا دون تأمل، وكان يبتسم بثقة وهو يقول: “اسألوني عن أي مشروع فيه خلل بعد خمسين سنة.”

يا الله، ما أعظم صدق هذه الجملة، حين تصدر عن رجل يعرف أن الله يرى، وأن الأثر لا يُمحى. كان بسيطًا في ملبسه، أنيقًا في منطقه، نبيلًا في خصومته، كريمًا في عطائه. وإذا خالط الناس، خالطهم كأنه واحد من أهلهم. وإذا جلس مع طلابه، جلس كأنه يتعلم منهم. لا يعلو صوته، لكن كلمته تسمع. لا يفرض حضوره، لكن حضوره يفرض احترامه.

وفي كل ذلك، لم تكن فلسطين تغيب عن عينيه. كان يتحدث عنها كما يتحدث عن البيت، ويخطط لأن يعود بها ومعها. لم يرضَ أن يتغرّب أبناؤه عنها، بل أوصى بأن يتعلموا فيها، كأنما أراد أن يبقى فيهم وعد العودة حيًا، وسراجًا لا ينطفئ.

ثلاثة أعوام مضت على رحيله… كأنها لم تكن. فمحمد كيوان لا يُقاس بعمر، ولا يُختزل في تاريخ ميلاد ووفاة. بل هو مدرسة، وسيرة، ورسالة. رحل وفي يده آلاف الرسومات، لكنها لم تكن للأبنية فقط، بل لأرواح أحبّها، ومؤسسات ساعدها، وأجيال ألهمها. رحل لكنه ترك في جامعة دكا شوقًا لا يخبو، وفي المؤسسة الخيرية حنينًا لا يوصف، وفينا جميعًا سؤالًا لا يموت:
كيف يمكن لرجلٍ واحد، أن يحمل كل هذا النبل، ويظلّ متواضعًا إلى هذا الحد؟

اللهم اجزه عنّا خير ما جازيت عبدًا عن خدمته لدينك وعبادك، وأكرمه في دار كرامتك كما أكرمنا في دنياه،
وارزقه في قبره نورًا كما أنار لنا مشاريعنا وقلوبنا، واجعل أبناءه – الذين أراد لهم أن يكونوا في فلسطين – امتدادًا لرايته، وحملًا لرسالته، وميراثًا للرجاء الذي لا يخيب.

سلام عليك يا محمد، سلام على طيفك، على علمك، على صمتك، على ما لم نقله بعد عنك. سلام على كل مشروع وقّعت عليه يدك، وسلام على كل يتيمٍ أو مريضٍ أو طالبٍ مرّ بخيرٍ خططت له دون أن يعرف اسمك،لكنك كنت تعرف وجهته: وجه الله.
بقلم من أحبّك
ولم ينصفك الكلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top