من غزة إلى إفريقيا… لحظةُ ولادةٍ لم يشهدها التاريخ

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

ليس كل سقوط من أعلى هزيمة… أحيانًا تنهار القلاع لتُبنى القلوب. ليست القيادة الرشيدة وليدة الوفرة، ولا بنت المكاتب المكيّفة، ولا نتيجة المناهج المصقولة بمصطلحات الغرب. القيادة الرشيدة تولد من رحم الألم، من ضيق الحصار، من لحظةٍ تقف فيها بين اختيارين: أن تواصل العيش على هامش التاريخ… أو أن تصبح أنت التاريخ.

في غزة، لم تكن هناك مؤسسات بأبراج شاهقة، ولا اجتماعات لِلِّجان الخُبَراء، ولا ميزانيات استراتيجية متعددة المسارات. كان هناك فقط يقين، وإرادة لا تلين، وقيادة عرفَت أن القائد الحقيقي ليس من يُعطى منصبًا، بل من يُقدّم موقفًا. غزة علّمتنا أن القيادة الرشيدة لا تُقاس بعدد التقارير، بل بقدرتها على حماية الكرامة وسط الركام. وفي الأندلس، كانت صورة مضادة. قادةٌ يملكون الجيوش، والقصور، والخُطَب، والمظاهر، ولكنهم افتقروا لأبسط شرط في القيادة الرشيدة: الإحساس بالمسؤولية التاريخية. تركوا الشعوب تتخبط، وتفرّقوا في ولاءاتهم، حتى صارت غرناطة آخر دمعة في مآقي المجد الإسلامي… دمعة لم تُمسح حتى اليوم.

ما بين غزة التي قاومت لتبقى، والأندلس التي تفرّقت فسقطت، تظهر فجأة قصةٌ منسية، وُلدت بهدوء في ركنٍ إفريقي بعيد، بلا صخب إعلامي، ولا أضواء المؤتمرات، ولكنها تحمل من دروس القيادة الرشيدة ما يُخرس المجلدات.

إنها مؤسسةٌ إفريقية، نائية عن العواصم، لا تُعرف بموازنتها السنوية، بل بمسيرتها الإنسانية. تأسست على يد فريقٍ آمن أن الإدارة ليست هرمًا من الأوامر، بل شبكة من القلوب المتصلة بالله قبل أن تتصل بالأنظمة. في هذه المؤسسة، لم تكن الملفات أول ما يُفتح، بل كانت الأرواح هي البداية… كانت تبدأ يومها بمجلس قلب لا مجلس إدارة. كانت تعرف أن الطاولة المستديرة لا تكفي إن كانت النفوس الزوايا.

الرئيس التنفيذي للمؤسسة لم يكن يحمل سيرة ذاتية براقة، لكنه كان يحمل عبئًا أخلاقيًا يشبه حمل غزة. رجلٌ قمحيّ اللون، تقرأ في ملامحه تواضع المجاهدين، لا كبرياء المدراء. يمشي بين مكاتبه كما تمشي الفكرة بين القلوب: بلا صوت، لكنها تُغيّر كل شيء. لم يكن يتحدث عن “الإنتاجية”، بل عن “الأمانة”. لم يسأل: كم أنجزنا؟ بل: كم أصلحنا؟
كان يؤمن أن القيادة ليست في أن يُطاع، بل في أن يُحتذى.

توفي أحد موظفي المؤسسة في مهمة إنسانية نائية، فقام بنفسه بتجهيز الجنازة، وذهب إلى أسرته، وقال كلمةً واحدة: “لقد أضأنا بإذن الله شمعة في العتمة، وسنواصل بها الطريق.” هذا ليس مشهدًا عابرًا… هذا معيار. حين اجتمعت المؤسسة لمناقشة أزمة التمويل، لم تكن الجملة الافتتاحية: “كم خسرنا؟”
بل: “كم حافظنا على رسالتنا؟”
ذلك لأن القيادة الرشيدة في هذا المكان لا تحصر ذاتها في الميزانية، بل في المعنى.

غزة كانت الملهمة، والأندلس كانت المحذّرة… وهذه المؤسسة كانت المجيب.

كان من حول المؤسسة يسخرون من محدودية إمكانياتها، لكنها كانت تملك ما لا يُشترى:
• قائدًا يُصلي قبل أن يقرر
• فريقًا يختلف بحبّ، ويجتمع برؤية
• فلسفة تُشبه نبضات غزة: ثابتة في الإيمان، متغيرة في الوسائل
• وذاكرة لا تنسى أن كل مشروع في الدنيا، إن لم يُربِّ قلبًا، فهو مشروع خاسر

وعندما جرى اختيار المؤسسة لقيادة شراكة إقليمية ، سُئل القائد: “كيف استطعتم أن تتميزوا رغم أنكم بلا دعم دائم؟” أجاب بابتسامة واثقة: “لم ننتظر من العالم أن يُموّل رؤيتنا… فقط دعوناه يراها.” في تلك المؤسسة، لا أحد يُحاسبك على تأخير بريد إلكتروني، لكنهم يسألونك عن إحساسك برسالة الفقير الذي طرق بابك. لا أحد يتباهى بعدد الاجتماعات، بل يتباهون بعدد الأنفس التي عادت إلى الله بفضلهم.
لا أحد يُحدّثك عن القيادة من الكتب… بل من المواقف، من الفجر الذي يُقام في المقر، من دمعة موظفٍ وجد في مديره أخًا قبل أن يجده رئيسًا.

كل شيء في هذه المؤسسة يقول لك: “لسنا غزة، لكننا على خطاها… ولسنا الأندلس، ولن نكون مثلها بإذن الله.” هكذا تكون القيادة الرشيدة:
لا تُقاس بحجم الدولة، بل بحجم الوعي. لا تُعرف بالمكان، بل بالاتجاه.
لا تصرخ بالأوامر، بل تهمس بالقدوة.
غزة قاومت العدوان، وهذه المؤسسة قاومت التفاهة الإدارية، والاغتراب القيمي، والجمود الروتيني.
غزة حمت الكرامة بالسلاح، وهم حموا الرسالة بالقلب. في عالمٍ يُحتفى فيه بالأرقام، اختاروا أن يُحتفَى بهم بالصدق. وفي عصرٍ يُراد فيه للقيادة أن تكون صاخبة، اختاروا أن يكونوا صامتين… لكن مؤثرين.
إنها القيادة التي وُلدت من رماد السقوط، ومن دخان صواريخ غزة، ومن عبرات الأندلس… قيادة لا تبحث عن الصفحة الأولى، بل عن الصفحة التي لا تُطوى من ضمير الأمة.

فيا من تكتبون عن القيادة في وادي السيليكون، تعالوا إلى إفريقيا…
ستجدون هناك قيادة لا تلبس ساعة ذكية، لكنها تعرف متى يوقظ الله القلوب. تعالوا إلى ذلك المكتب البسيط في ضواحي إفريقيا،
واكتبوا: “هنا… وُلدت قيادة رفضت أن تكون أندلسًا ثانية.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top