|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي

الجمعة، الأول من أغسطس 2025. صباحٌ كويتي يزهر بنورٍ خفيف، وكأنه يعلن ميلاد جمعةٍ مختلفة. شهرٌ كامل من الغياب شتّت الأحبة بين الإجازات والسفر، حتى عادوا جميعًا إلا الغالي أبو علي حسن الأصيل، الذي بقي حاضرًا بقلبه وصوته، يطلّ على المائدة من وراء البحر بصدى حنينه.
هناك، في بيت الاستشاري أبو مصطفى عبيدو، اجتمع الشوق قبل أن يجتمع الطعام. وجوه مألوفة تشرق بالمحبة: محمد صالح بابتسامته التي تحرس الودّ، أحمد عبيدو بحضوره الواثق، محمد فريح بضحكته التي تكسر رتابة الغربة، وكاتب هذه السطور الذي جاء قلبه قبل قدميه. وعلى الهاتف يطلّ أبو علي، يُلقي على الجمع تحيّة الغائب الذي لا يغيب، فتكتمل حلقة الدفء.
لكن البطل الحقيقي لهذا الصباح كان رجلًا يعرف كيف يخلط الطهي بالحنين… الدمرداش. ليس طاهيًا، بل شاعر المائدة وفنّان اللحظات. ثلاثة أيام وهو ينسج سيمفونيته السرية؛ يخطط، يشتري، ويحوّل كل تفصيلة إلى ذكرى قابلة للحفظ.
اليوم الأول… رحلة البط إلى الكويت
مشهد السوق كان بداية الرواية؛ حيث اختار الدمرداش البط بعينٍ خبيرة، وكأنّه يختار ضيوف الشرف لمائدة قروية في الكويت. عاد به إلى الغالية أم عبد الله، التي تولت طقس الذبح والتجهيز بيدين تحملان ذاكرة الأمهات المصريات. لم يكن البط مجرد طعام، بل رسالة حنين مكتوبة بلحمٍ وريش، تقول: “مهما اغتربنا، قلوبنا ما زالت في ههيا الشرقية.”
اليوم الثاني… ولادة الخلطة السرية
في المطبخ، حيث تتحوّل الأدوات إلى آلات موسيقية، أبدع الدمرداش معزوفته: زيت الزيتون يلمع في المقلاة كبداية الافتتاح، ثم يهمس البصل على نار هادئة، تلحقه الطماطم بدمها الأحمر فتصنع لحن الشجن، ثم تتناثر الخضرة والبهارات كقصيدة نثر تُختتم على مهل. هذه ليست خلطة محشي، بل أرشيف عاطفي يُحفظ في الثلاجة حتى يحين موعد الوليمة.
اليوم الثالث… فجر الجمعة الذي يشبه العيد
الساعة الثامنة صباحًا، والبيت يستيقظ على رائحةٍ تقول: “هنا عيد بلا تكبيرات”. بدأ الدمرداش بطهي البط بحنوّ، بينما يملأ المحشي الفلفل والكوسة والباذنجان وكأنه يودع في كل واحدة منها رسالة حب. عند العاشرة والنصف، كانت القدور قد أعلنت اكتمال النشيد، وبدأ المطبخ يشبه ساحة عرضٍ عسكري، حيث تصطف الأطباق كجنود في انتظار التحية.
الحكاية القديمة التي ترويها المائدة
جلس الجمع حول المائدة، فابتسم الدمرداش وهو يستعيد أول تجربة له مع المحشي، يوم جاء أبو علي بالكرنب وفرشه في الإناء ووضع الأرز طبقات، تجربة بسيطة لكنها أنجبت أسطورة المائدة الحالية. يومها عاد الدمرداش إلى شقيقته الأستاذة سعاد-تغمدها الله بواسع رحمته-، ليتعلم منها أسرار الصنعة، ومنذ ذلك اليوم صار كل محشي يروي قصة عائلة، ومذاق القرية، ووفاء الغربة.
أكثر من طعام… لقاء الأرواح
حين امتدت الأيدي للطعام، لم يكن الأمر جوعًا بل احتفاءً بالصحبة. قال الإمام علي بن أبي طالب: “الجليس الصالح نعمة، والإنس به غنيمة.” وهكذا كانت المائدة: نعمة وجمعة، غنيمة وذكرى. البط والمحشي مجرد وسيط، أما الجوهر فكان الحب الذي يتدفق من النظرات، والودّ الذي يربط هؤلاء الرجال بقريةٍ بعيدة على ضفاف النيل.
حتى الاتصال الهاتفي مع أبو علي صار جزءًا من الطقس، صوته يمر بين الأطباق كدعاءٍ مكتوم، يكتمل به النصاب العاطفي. وفي تلك اللحظة، فهم الجميع أن المائدة ليست طعامًا على طاولة، بل جسر بين وطنين، وحكاية تثبت أن القلوب تستطيع أن تعبر البحار بلا جواز سفر.
بعد أن انفضّ الجمع غادرت الأرجل لكن بقيت الروائح عالقة في الذاكرة، وبقيت صورة الدمرداش أمام القدور أيقونةً لجمعةٍ لن تُنسى. كانت المائدة درسًا في الوفاء، وفي صون الروح الشرقية على أرضٍ غريبة، وفي الترجمة العملية لقول غوته:“المائدة التي يجتمع حولها المحبون، تُطعم القلب قبل المعدة.”
تلك كانت جمعةً استثنائية… جمعة تثبت أن الغربات مهما طالت، يظل للقرية طريقٌ إلى القلب، وأن في كل بيت عامر بالمودة مساحة تكفي وطنًا كاملًا من الحنين.
