|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

الغبار يسبق الشاحنة في الطريق الترابي… ريح ساخنة تلسع وجوه الأطفال الحفاة، والسماء مثقلة برائحة الغبار والرماد، كأن غزة كلها تحبس أنفاسها في انتظار كيس دقيق يتيم. تقترب الشاحنة البيضاء، محمّلة بما يُسمّى مساعدات إنسانية، فتتحول العيون إلى سهام، والقلوب إلى أقدام تركض قبل الأجساد. تصفق الأبواب الخلفية فجأة… تتساقط الأكياس كما لو أنها أوراق شجر ذابلة، وتعلو صرخات الجوع: “واحد إلي… واحد إلي…” ثم لحظة صمت… قبل أن ينفجر المشهد في فوضى مدروسة: تدافع، سقوط، أيدٍ تتشبث بأكياس الطحين كمن يتشبث بالحياة، وعيونٌ مصوّبة من خلف الكاميرات تلتقط المشهد المطلوب: إنسان مسحوق يلهث خلف الرغيف.
مسرحية الانكسار اليومي
في نفس المدينة، وعلى بعد أمتار قليلة، تمر شاحنة أخرى… لكنها ليست شاحنة طحين، بل شاحنة تاجر، مغطاة بمشمع أزرق، محمّلة ببضائع براقة وأسعارها تلسع أكثر من شمس الظهيرة. تمرّ بهدوء ملكي… حراسة مسلحة تحرس السكر والأرز والشوكولاتة، طريق مفتوح، بلا أطفال يركضون، بلا كاميرات تترصّد، لتصل إلى مخازن مغلقة بإحكام.هناك فقط، يتذوق المال طعم الأمان… بينما الجوع البشري يُترك للعراء.
الاحتلال لا يترك شيئًا للصدفة
كل كيس طحين يدخل غزة يعرف طريقه سلفًا… يُوجَّه إلى حيث يلتقي أكبر عدد من الجياع، يُترك بلا حماية ليصنع مشهد الانهيار، ثم تُطلق الشائعات لتكمل المسرحية:
“الناس سرقت” “المؤسسات خانت” “ما في كرامة هنا” هذه ليست مجرد حرب على الأكل، بل هندسة نفسية متقنة: أن ترى الخبز ولا تملكه، أن يراك ابنك عاجزًا ولا تفعل
أن تموت كرامتك قبل معدتك، بينما تمر شاحنات التجار بسلام، تحرسها البنادق نفسها التي تركت أطفال المخيمات يطاردون الغبار، لتصل البضائع الفاخرة للأسواق، تُرصّ على الرفوف، وتصبح المأساة طبقية صريحة: من يملك المال يأكل، ومن لا يملكه يتفرج.
صوت الصمت المهين
مع الغروب، تصبح الشوارع موحلة برماد الدخان، أصوات الأطفال تخفت مع مغيب الشمس، والمخيم يشم رائحة الخبز من بعيد… خبز يخبز في بيت قادر على الدفع،
بينما خيمة الجائع تزداد برودة وصمتًا. ذلك الصمت أخطر من أي انفجار، لأنه صمت الانكسار الداخلي… صمت السؤال الكبير: “ليش أنا؟ وليش ابني؟ وليش وطني ما عاد يحمي رغيفي؟” وكما قيل: “إذا أردت أن تُحطّم إنسانًا… اجعله جائعًا، ثم اجعله يرى الطعام ولا يلمسه.” هذا ما يفعله الاحتلال كل يوم، لا يكتفي بحصار الجسد، بل يحاصر الروح، حتى يختزل الوطنية كلها في رغيف لا يصل.
ليست معركة خبز
كل شاحنة تُنهب ليست مجرد حادثة فوضى، بل رسالة يريدها الاحتلال أن تصل: “أنتم بلا نظام… بلا كرامة… بلا أمل.” لكن الحقيقة أعمق من الصورة المعلّبة: من سمح بدخول الشاحنة بلا حماية؟ من خطط أن يُرى الجوع على شاشات العالم؟ من حمى شاحنات التاجر وترك شاحنات الفقراء فريسة؟ ومن يريد أن ينقلب الغاضب على جاره بدل عدوه؟ إنها حرب على البوصلة قبل أن تكون حربًا على البطون.
براءة الجوع وخذلان العالم
لم تعد القضية كيس طحين ولا شاحنة مساعدة، إنها معركة أخلاقية مفتوحة أمام العالم كله. كل طفل يركض حافيًا خلف الغبار يحمل براءة تُدين كل من صمت،
وكل جار يسمع أنين الجوع على بعد خطوات من بيته ولا يتحرك… شريك في الجريمة بالصمت. الخذلان اليوم ليس سياسيًا فقط، بل خذلان إنساني شامل: دول ترى ولا تتكلم، جيران يسمعون ولا يتحركون، ضمير عالمي يعرف الجريمة ويكتفي بالمشاهدة، إننا أمام مجزرة صامتة، القتل بالتجويع أشد فتكًا لأنه يقتل الروح قبل الجسد. والواجب واضح لكل من يسمع ويرى: ألا نكون شهود زور على الجوع، أن نفضح هذا المسرح الدموي للعالم أن نكسر حصار الصمت قبل أن يحاصرنا العار، لأن التاريخ لا يرحم، والجوع بريء، أما خذلان العالم… فعَارٌ لا يُمحى.