أبي في غزة… حين تصبح الذكرى جسرًا بين القلب والكون

Getting your Trinity Audio player ready...

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في درج خشبي قديم، من تلك الأدراج التي تحتفظ برائحة الورق العتيق والغبار النبيل، وجدت رسالةً صفراء باهتة، كأنها خارجة لتوّها من زمنٍ آخر. فتحتها بيدٍ مرتجفة، فإذا هي بخطِّ عمي إبراهيم رحمه الله، مؤرخة 17/07/ 1963، تحمل جملةً هزّتني: أخي الحبيب، أزف إليك بشرى ولادة ابنك اليوم…” كانت الرسالة قصيرة، لكنها أثقل من كل كتب الدنيا. لأنني وأنا أقرأها، لم أقرأ خبر ميلادي فقط، بل قرأت مشهدًا كاملًا: والدي هناك، في غزة، يعمل بالسكة الحديد، يزرع عمره في أرضٍ لم تكن تعرف يومًا الهدوء. وأنا هنا، أُستقبل في الدنيا وقلبي منذ اللحظة الأولى معلّق بأرضٍ لم أرها بعد، لكنها صارت جزءًا من سيرتي منذ الميلاد.

حضور مضاعف

لم أكن أتخيل يومًا أن ولادتي سترتبط بغزة، تلك المدينة التي رغم حصارها وصراعها، تقف شامخة كالجبل. الأب الذي سيصبح سندي وأملي ومرآة عمري، كان آنذاك في قلب هذه الأرض، يعمل بصمت في إدارة حركة القطارات، محافظًا على سلامة الأرواح ودقة سير القطارات، رابطًا بين المدن والقرى بأمانة لا تعرف كللًا. لم يكن يدرك أن أيامه في غزة ستنسج خيطًا آخر، خيطًا يربطني أنا بها، بين سيرة أسرة صغيرة وقضية كونية تتجاوز الحدود. وعندما عدت إلى الرسالة مرة أخرى، شعرت أن الحبر لم يجف بعد، وكأن عمي، وهو يكتب، كان يسمع في الخلفية أصوات البحر، وقع أقدام العابرين، وربما قصفًا بعيدًا يذكّر أن غزة لم تكن يومًا ساكنة. وفي كل هذا الزخم من الحياة والصخب، كان والدي هناك، ثابتًا وصامدًا… ينتظر خبر ميلاد طفلٍ سيكون امتدادًا له، امتدادًا لعزته وكرامته، امتدادًا لحياة ترتبط بخيوط هذه الأرض التي لا تنسى.

الأب الذي كان وطنًا

حين أنظر إلى سيرته، أراه أشبه بخطوط السكة الحديد نفسها: مستقيمًا، صلبًا، يحافظ على حركة سير القطارات، ويصون أمن وسلامة المارة مهما كانت العوائق، لم يكن والدي يملك قصورًا، ولا أوراقًا ممهورة بختم السلطة، لكنه كان يملك شيئًا أندر: القدرة على أن يكون سندًا لا ينكسر. كنتُ أشعر أنني ما دمت في حضرته، فإن العالم كله عاجز عن أن يهزّني. كان صوته أمانًا، وصمته درسًا، ونظرته وعدًا أنني لست وحدي. كل مرة كان يمد يده إليّ، كنت أشعر أنه يمد العالم كله، لا مجرد كتفي. وقد صدق الإمام علي بن أبي طالب حين قال: ما نحل والد ولده من نحل أفضل من أدب حسن.” لم يترك لنا أبي ذهبًا ولا فضة، لكنه ترك لنا ميراثًا أثمن من كل المعادن: الصبر، والكرامة، والعزة، والرحمة. ترك لنا أن نكون بشرًا يعرفون قيمة أن يكونوا بشرًا.

 مرآة الأب

حين أتأمل أن أبي كان هناك، في غزة، لحظة ولادتي، أشعر أن حياتي منذ البداية مكتوبة بلغة الرموز. الأب الذي كان سندًا لي، كان حاضرًا في مدينةٍ هي سند الأمة. الأب الذي علّمني الصبر، كان يعيش في مكانٍ لا يعرف إلا الصبر. الأب الذي لم يرضَ بالظلم، كان في مدينة تقف في وجه أعتى الظلم. كأن غزة لم تكن بالنسبة لي مجرد جغرافيا، بل كانت مرآة لأبي. وعندما رحل في الرابع من أكتوبر 2019، أحسست أن الحزن الشخصي امتزج بالحزن الجماعي، وأن الدموع التي ذرفتها عليه، ذرفتُها أيضًا على غزة.

القضية التي تعانق الذكرى

كلما مرّت ذكرى رحيل والدي، لا أستطيع أن أفصلها عن غزة. كأن ذكراه مرتبطة بقضيتها، وكأن حياته نفسها امتدت في طريقين: طريق الأسرة الصغيرة التي ربّاها، وطريق الأمة الكبرى التي كان جزءًا منها من غير أن يدري. لقد رحل أبي، لكن غزة ما زالت تصرخ. أبي غاب، لكن غزة تذكّرني أن الأبوة ليست فقط علاقة دم، بل علاقة كرامة. أبي تركنا، لكن كلما نظرت إلى الأخبار، شعرت أنني ما زلت أراه هناك، يطمئن أن القطارات تسير في طريقها دون خلل، حفاظًا على الأمانة والمسؤولية والأرواح. يبني طريقًا للأمة كلها. وقد قال الرافعي: “المرء حين يفقد أباه، لا يفقد شخصًا، بل يفقد عالمًا.” وأنا حين فقدت أبي، فقدت عالمي الصغير. لكنني حين أنظر إلى غزة، أدرك أن العالم كله فقد جزءًا من نفسه، وأن الفقد ليس شخصيًا فقط، بل كونيًا.

الحكاية التي لا تنتهي

إن الرسالة القديمة التي وجدتها ليست مجرد ورقة، إنها وثيقة إنسانية. إنها دليل أن حياة إنسان بسيط يمكن أن تتقاطع مع قضايا كبرى، وأن ميلاد طفلٍ قد يرتبط بمكانٍ يظل رمزًا للعدل والكرامة. لقد صار أبي بالنسبة لي ليس فقط رجلًا ربّانيًا في بيته، بل جزءًا من رواية تاريخية لا يستطيع أحد أن يكتبها كاملة. وأنا اليوم، بمحاولتي هذه، لا أكتب مقالًا فقط، بل أكتب فصلًا في كتاب سرمدي، كتاب الأبوة والكرامة والإنسانية.

 دمعة على وجه الكون

يا أبي… كنت السند حين ثقل الحمل، كنت الوطن حين ضاقت الدنيا، كنت الحب الباقي للأبد. رحلت جسدًا في أكتوبر، لكنك بقيت فينا ميراثًا من نور. واليوم، حين أنظر إلى غزة، أراك فيها. أراك في أطفالها الذين ينتظرون آباءهم فلا يعودون. أراك في شيب رجالها الذين يشبهونك في وقارك. أراك في صمودها الذي يشبه صبرك. سلام عليك يا أبي، وسلام على غزة. سلام على يدك التي رسمت للقطارات مسارها في أمنٍ وسلام، لتربط المدن وتصل القلوب.  لكنها في الحقيقة كانت تصل بين قلبي وبين هذه الأرض. سلام عليك وعلى كل الآباء الذين رحلوا، وبقوا فينا أوطانًا لا تموت. رحمك الله رحمةً واسعة، وجعل الفردوس الأعلى مثواك، وجعل ذكراك جسرًا نعبر به إلى إنسانيتنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top