|
Getting your Trinity Audio player ready...
|
لم يكن الرابع من أكتوبر 2019 تاريخًا عابرًا في روزنامة العمر، بل كان محطةً فاصلةً بين زمنين: زمن كنتُ أراه فيه بيننا شامخًا كالنخيل، وزمنٍ غاب فيه جسده، لكن بقي حضوره أثقل من كل حضور، وأجمل من كل بقاء. أجلس أحيانًا لأتأمل صورته، فأدرك أنني لا أنظر إلى ملامح وجهٍ فحسب، بل أقرأ في قسماته كتابًا كاملًا من الحكمة. عيناه، وقد غزاهما البياض، كانتا تحملان في صمتهما نورًا يسبق الكلمات، وصوته، حين يعلو بالحق، كان أشبه بجرس يوقظ الضمائر. أبي لم يكن رجلاً فقط، كان مؤسسة حياة، جامعة قيم، وجدارًا من صبرٍ وسندٍ لا ينهدّ. ولعلني حين أكتب اليوم عنه، لا أكتب مرثية، بل أدوّن وثيقةً إنسانيةً، تسعى أن تحفظ شيئًا من معناه، وأن تُعرّف العالم كيف يكون الأب حين يصبح أكبر من ذاته، رمزًا يتجاوز الفردية إلى الإنسانية.
الأب سندٌ لا يُكسر
كنتُ أشعر به، منذ طفولتي، كأنه جبل يطل على حياتي. مهما اشتدت رياح الحياة، كنت أجد في ظله أمانًا لا يزول. لم يكن حضوره مجرد وجود في البيت، بل كان حضورًا في القلب والروح. حين يضع يده على كتفي، كان الحمل يخفّ، والوجع يذوب. وما زلت أذكر تلك اللحظة التي كنتُ أحمل فيها همًّا أكبر من عمري، فأقبل عليّ بابتسامته الرقيقة، وقال: “يا بني، الله لا يحمل نفسًا فوق طاقتها، لكنّه يحمّلها لتعرف طاقتها.” كانت كلماته مرساةً أنقذتني من الغرق.
الأب مدرسة الحنان
قد يظن البعض أن الهيبة تقسو، وأن الوقار يباعد، لكن أبي كان استثناءً. كان يحمل وقار الشيب، لكن في قلبه حنان طفل. حين يجلس بيننا، كنا نشعر أن العالم صار أصغر، وأن الطمأنينة لبست بيتنا. كان يوزع حبه بالتساوي، فلا يترك واحدًا في الظل، ولا يغفل عن أحد. وكنتُ أتعجب من قدرته على أن يكون صارمًا في الحق، وفي ذات الوقت أرقَّ من نسيم الفجر. وقد قال الإمام علي بن أبي طالب: “ما نحل والد ولده من نحل أفضل من أدب حسن.” وأبي لم يورّثنا مالًا كثيرًا، لكنه أورثنا أدبًا لا يفنى، وحنانًا يذيب أقسى الجبال. كل موقف من حياته كان درسًا، كل صمته كان خطبةً، وكل ابتسامته كانت عطاءً.
الأب كتاب لا يُغلق
اليوم، وبعد مرور أعوام على رحيله، أكتشف أنني أقرأه أكثر مما كنت أسمعه. كأن غيابه فتح بابًا لفهمٍ جديد: أن الأب لا يموت، بل يتحوّل إلى كتاب مفتوح في ذاكرة أبنائه. أحيانًا أسمع صدى نصائحه في مواقف العمل، وأحيانًا أستحضر حضوره حين أتردد في قرار مصيري. أشعر أنني ما زلت أستعين به، كما لو أنه يجلس إلى جواري. وقد صدق الرافعي حين قال: “المرء حين يفقد أباه، لا يفقد شخصًا، بل يفقد عالمًا.” وأنا حقًا فقدت عالمًا كاملًا، لكنني كسبت عالمًا داخليًا أعمق، عالمًا يُذكّرني أن الأثر لا يزول.
الأب في ميزان الروح
حين أنظر إلى الرابع من أكتوبر، لا أراه يومًا للفقد فقط، بل يومًا للامتحان. امتحان كيف أكون امتدادًا له، لا ظلًا باهتًا. كيف أجعل قيمه حيّة في عملي، في حديثي، في قراراتي. إنّ رحيله لم يكن غيابًا بقدر ما كان وصيةً صامتة: “واصلوا الطريق، وكونوا كما علمتكم.” تلك الوصية التي لا تكتب بالحبر، بل تكتب بالدمع والصبر والمواقف. كلما اشتدت عليّ صعوبات الحياة، أستحضر صورته، فأجد في عينيه ما يكفي لأمضي. وما أروع أن يتحول الحنين إلى دافع، والفقد إلى وعي، والذكرى إلى رسالة.
الأب والخلود
الناس يرحلون، لكن القيم تبقى. أبي لم يكن يبحث عن مجد دنيوي، ولا عن ذكر في الصحف، لكنه صار في قلوبنا مجدًا لا يزول. كل ما غرسه فينا من صدق ووفاء وأمانة، صار ميراثًا لا يفنى. أدركت متأخرًا أن الأب الحقيقي لا يورِّث أبناءه بيوتًا أو أرصدة، بل يورّثهم ما يجعلهم يقفون بصلابة أمام الدنيا. لقد أورثنا أبي عزيمةً، ورضًا بالقليل، وكرامةً لا تُشترى.
وختامًا، حين أكتب عن والدي اليوم، لا أكتب سطورًا في ذكرى رحيله، بل أكتب شهادة على أنه كان رجلًا بحجم وطن. رجلًا يختصر معنى السند، ويفتح لنا بابًا لفهم الحياة. يا أبي، لقد كنتَ الخبر والمبتدأ، والقوة إن ثقل الحمل، والحب الباقي للأبد. لقد دلّلتنا وربيتنا، ورفعتنا حتى غدونا رجالًا نمشي على الأرض ونحن نحمل بصمتك. سلامٌ على روحك الطاهرة، سلامٌ على شيبتك المضيئة، سلامٌ على ابتسامتك التي لم تفارقنا.سلامٌ على اليوم الذي غبت فيه جسدًا، وبقيت فيه أثرًا لا يزول. رحمك الله رحمةً واسعة، وجعل الفردوس الأعلى دارك ومثواك.