حين يتحول العطاء إلى نبض الحياة

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في زاوية هادئة من الحي، كان الصباح يمر بهدوء، ينسج ضوءه بين جدران البيوت القديمة، ويرسم خيوط الأمل على وجوه المارة. بين هذه الأحياء البسيطة، يحمل أحدهم في يده ما يكاد يكون شيئًا ضئيلاً، ولكنه بالنسبة له كل ما يملك: بعض القروش التي بالكاد تكفيه للحصول على رغيف خبز. خطواته مترددة، قلبه مرتجف، لكنه يحمل رغبة صادقة واحتياجًا واضحًا.

يدخل المخبز الصغير، حيث رائحة الخبز الطازج تنسج جدارًا من الأمان. العيون تتبادل نظرات قصيرة، يتساءل عن حاله، ويحاول أن يبدو واثقًا رغم خجل الحاجة الذي يكتنفه. هنا، عند عتبة البساطة، تبدأ قصة ليست مجرد طلب رغيف خبز، بل درس عميق في الإنسانية، في المسؤولية المجتمعية، وفي رد الجميل الذي يتجاوز كل حدود التوقع. صاحب المخبز، رجل يبدو في ملامحه هدوء الزمن وطيبة القلب، يراقب المشهد بعينين لم يعتادتا على العدمية، بل على العطاء الصادق والوعي بالآخر. يسأله عن حاله، بابتسامة دافئة تنسج جدار الأمان، وكأنها تقول: “لا تقلق، هناك دائمًا من يهتم بك.” ثم يحدث المعجزة: يخرج صاحب المخبز من جيبه مبلغًا يفوق كل توقع، إلى جانب كيس الخبز الطازج، ويقدمه للسائل وكأنه يقول: “خذ أكثر مما تحتاج، لأن الحياة أوسع من الحاجة المؤقتة.”

لحظة واحدة، بسيطة في الزمن، عميقة في المعنى. السائل لم يكن يتوقع أكثر من رغيف خبز، لكنه غادر المكان وهو يحمل أكثر من حاجته المادية، وأكثر من أمله البسيط: شعور بالكرامة، إحساس بالأمان، وأفق جديد للحياة. هنا، في قلب المخبز الصغير، يتجلى الجوهر الإنساني الحقيقي: العطاء الذي لا ينتظر الشكر، الكرم الذي لا يحصي الفائدة، الرحمة التي تتجاوز حدود الموقف. فالخبز ليس مجرد غذاء للجسد، والمال ليس مجرد وسيلة، بل هما رمزان للحياة، للأمل، وللسلوك الأخلاقي الرفيع.

الأبعاد الإنسانية في هذا المشهد مذهلة. فالسائل، المغمور بالخجل والحاجة، يمثل كل إنسان يقف أمام الحياة بموارد محدودة، يحلم ببداية جديدة، ويرجو بصيص أمل. بينما الخبّاز يمثل كل من يمتلك وعيه المجتمعي، ويدرك أن دوره في الحياة لا يقتصر على الكسب المادي، بل يمتد ليشمل المساهمة في صنع الأمل، وإعادة الثقة في الإنسانية.
استدلالات العظماء تضيف عمقًا لا يُنسى لهذا المشهد: قال الإمام علي (رضي الله عنه): “ما نقص مال من صدقة”. فالخيرة لا تضر المال، بل تزيده بركة، وتعكس حكمةً سماوية في العطاء. وقال غاندي: “العظمة لا تكون في القدرة على إعطاء الكثير، بل في القدرة على العطاء من قلب صادق”. فالعطاء ليس كمية، بل صدق ووضوح النية. وصدق القائل : “خير الناس أنفعهم للناس”. وهنا يظهر الخبّاز كرمز للفاعل النشط، الذي لا يكتفي بمشاعر الخير، بل يحوّلها إلى فعل ملموس يلمس حياة الآخرين.

المسؤولية المجتمعية في هذا الموقف تتجلى بأوضح صورها. فصاحب المخبز لم ينتظر شكرًا رسميًا، أو مناسبة، أو حتى اعترافًا عامًا. بل كان الفعل ذاته هو الجوهر: أن تعطي بلا حساب، بلا شروط، بلا انتظار. وهنا يكمن الدرس العميق: كل خطوة صغيرة في العطاء تصنع أثرًا يتجاوز حدود المكان والزمان، وقد تتحول إلى سلسلة من الخير تتردد أصداؤها في المجتمع كله. الوجدان الإنساني يتأثر بلا شك. السائل الذي جاء بخطوات مترددة، يغادر المكان وقد تغيرت حياته بطريقة غير متوقعة، ليس فقط من الناحية المادية، بل من ناحية الروحانية. يشعر بالكرامة، يلمس الطمأنينة، ويجد نفسه أمام أفق جديد من الأمل. هذه التجربة تزرع فيه الرغبة في رد الجميل، ومواصلة الخير، وإشاعة الرحمة، فتبدأ حلقة لا تنقطع من العطاء المتبادل.

الروح الحقيقية للنص هنا تتجاوز الحكاية نفسها: الخجل والتحفظ لدى السائل يمثل جانب الإنسان الضعيف المحتاج إلى الأمل، ابتسامة الخبّاز وصفاء قلبه يمثلان الجانب القادر على إشاعة الرحمة وتحويل الحاجة إلى نعمة، الفعل نفسه، ببساطته، يصبح رسالة عميقة، تعكس قيمة العطاء في المجتمع، وأثره في تغيير النفوس.كل عنصر في هذه اللوحة الإنسانية يكمل الآخر. الخبز، المال، النظرة، الصمت، والابتسامة، تتحد لتخلق مشهدًا متكاملًا يمس القلب والوجدان، ويترك أثرًا يستمر في النفس بعد مرور اللحظة. إنها ليست مجرد قصة عن كرم، بل درس حي عن الإنسانية، المسؤولية، والأمل.في هذا السياق، يبرز البعد الفلسفي: الحياة ليست مجرد صراع من أجل البقاء، بل هي فرصة لتبادل الخير، ونشر الأمل، وإحياء الروابط الإنسانية. كل لحظة نختار فيها أن نمد يد العون للآخرين هي بذرة لخير أكبر، وتذكير بأن القيم الحقيقية تتجسد في أفعالنا اليومية.

وختامًا، فالعطاء ليس مجرد فعل لحظة، بل أسلوب حياة، وقوة قادرة على تغيير المجتمع، وإعادة بناء القلوب، وإلهام الآخرين. فالذين يزرعون الخير اليوم، سيحصدون أثره غدًا في نفوس الآخرين، وسيصبح مجتمعهم أكثر رحمة وتلاحمًا، وأكثر قدرة على مواجهة التحديات بروح إيجابية.نسأل الله أن يجعلنا ممن يزرعون الأمل في كل قلب محتاج، وأن يمنحنا القوة لنكون سببًا في راحة الآخرين، ونكون دائمًا مثالًا للصدق، العطاء، والمسؤولية. وأن يبارك في كل خطوة صغيرة نقوم بها، لتصبح نبراسًا للآخرين، ورسالة واضحة بأن الإنسانية أعمق من الحاجة، وأرقى من المصالح، وأجمل حين تتحقق في أبسط الأفعال.هكذا، يصبح المشهد الصغير في المخبز درسًا في الإنسانية، يلمس وجدان كل قارئ، ويزرع فيه الرغبة في أن يكون سببًا في خير، وأن يرد الجميل بصدق وعفوية، وأن يعي أن كل فعل رحمة صغير يمكن أن يخلق موجة لا تنتهي من الخير والتلاحم الإنساني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top