حين صافحت عُمان قلب غزة

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

نخجل من مولانا، وربنا يغفر تقصيرنا، لكننا لا نخجل من الحب حين يأتي نقيًا من أرضٍ عرفت الإيمان طريقًا لها، ولا من العطاء حين يتخفف من الأضواء ليصل في هيئة بسمةٍ على وجه طفلٍ خرج من تحت الركام. ذلك اليوم لم يكن عاديًا في غزة. كانت المدينة تلملم أنفاسها بعد حربٍ أرهقتها، وكانت الأرواح تبحث عن دفءٍ يعيد إليها معنى الحياة. وفجأة، هبط النور من جهة عُمان، في هيئة مبادرةٍ صغيرةٍ بحجم الفعل، عظيمةٍ بحجم القلب:
أخياتٌ فضليات من عُمان، قدّمن الحلوى لأهل غزة في لحظةٍ ظنّ فيها الناس أن الحلوى غابت عن الدنيا.
كانت تلك القطع السكرية البسيطة تحمل في طيّاتها ما هو أكبر من المذاق، كانت رسالة حياةٍ من أرضٍ آمنت أن الفرح عبادة، وأن الجبر لغةٌ لا يتقنها إلا الأنقياء.

قيادة تُنبت الفرح كما تُنبت الدعاء

في وسط تلك البهجة التي امتزجت بالدموع، ظهرت أم لؤي – لا كقائدة تُصدر التوجيهات، بل كروحٍ تجمع الشمل وتزرع في القلوب عزيمة البِرّ.
رشيقة في أدائها، راقية في خُلقها،
تمضي بخطواتٍ تشبه رياح اللُّطف، لا تُحدث ضجيجًا، لكنها تُبدّل ملامح المكان. جمعت الأخيات على نيةٍ خالصة، وقالت بهدوئها المألوف: “نريد أن نُهديهم فرحةً تُنسِيهم لوهلةٍ لون الرماد.” فكانت البداية حلوى صغيرة… ثم تحوّلت إلى مشهدٍ تُغنّيه وجوه الأطفال في غزة،
وإلى ذاكرةٍ جماعيةٍ لن تمحوها الأيام. ما أرقّ القيادة حين تكون خفيةً في المظهر، جليّةً في الأثر،
وما أصدقها حين تنبع من قلب امرأةٍ تشبه الورد، لكنّها تعرف كيف تزهر في العواصف.

حين يلتقي الإيمان بالإنسان

ما كان بين الأخت العُمانية والطفل الغزّي مجرد قطعة حلوى، بل لقاءُ روحين بينهما بحرٌ من الدعاء.حين مدّت يدها لتقدّم الحلوى، لم يكن في ذهنها أنها تصنع حدثًا، بل كانت تطبّق قول الإمام محمد بن عبد الله السالمي حين كتب:“الخير ما دام في الناس موروثُ، فاجعل لنفسك فيه نصيبًا محفوظًا.” وهكذا فعلت الأخيات، فجعَلن لأنفسهن نصيبًا من الخير لا يُمحى. لقد أثبتن أن عُمان لا تُرسل مساعدات، بل تبعث بركة،
وأن ما بين السلطنة وغزة ليس مجاملة سياسية، بل وشائجُ من الرحمة.

حين تبتسم غزة بعد الألم

كانت البسمات التي ملأت الوجوه في غزة أشبه بماءٍ نزل على أرضٍ عطشى. طفلٌ يضحك للمرة الأولى منذ شهور، وأمٌّ تُوزّع الحلوى بدموعٍ تختلط بالشكر، وشيخٌ يرفع يديه إلى السماء قائلًا: اللهم احفظ عُمان كما حفظت قلوبهم من القسوة. تلك اللحظة وحدها كانت كفيلة بأن تعيد للمدينة نبضها. ومن عمق المشهد خرجت حكمة السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله،الذي قال يومًا:“إن الإنسان العُمانيّ هو أثمن ثروات هذا الوطن.” وها هو هذا الإنسان – بعفويته وكرمه وصمته النبيل -يُثبت أن الثروة ليست في النفط ولا في الأرض،بل في القلب الذي يعرف متى يُجبر ومتى يُواسي.

تبرأنا من حولنا وقوتنا

قالت أم لؤي، وهي تنظر إلى وجوه الأطفال التي أشرقت كالفجر بعد ليلٍ طويل:“تبرأنا من حولنا وقوتنا إلى حول الله وقوّته، هو الرزّاق ذو القوة المتين.” كانت كلماتها دعاءً يُشبه القصيدة، تُذكّر كل من حولها بأن ما كان ليتحقق هذا الجبر لولا رحمة الله التي سخّرت الأرواح الطيبة.غزة تعلمت أن الشكر عبادة،وعُمان علمت العالم أن العطاء أدب،وحين يلتقي الأدب بالعبادة، يولد مشهدٌ لا يمكن للتاريخ أن يتجاهله.

ومضة من حكمة الشيخ أحمد الخليلي

في تلك الأيام، تذكّر الناس قول الشيخ أحمد بن حمد الخليلي – حفظه الله -حين قال في إحدى خطبه:“ما من معروفٍ يُقدَّم لوجه الله إلا ويمتدّ نوره، وإن خفي أثره عن الأعين.”وهكذا امتدّ نور المعروف من جبال عُمان إلى شوارع غزة،
من أيدٍ لا تُحب الشهرة، إلى قلوبٍ كانت تنتظر اللمسة الحانية.
لقد صنعن الأخيات العُمانيات درسًا في الجمال: أن اليد التي تعطي بصدق لا تحتاج إلى عدساتٍ توثّقها،
فالسماء وحدها تحفظ الموقف وتُكافئ النية.

اللهم صبّ علينا وعلى عُمان

وفي لحظة امتنانٍ تفيض بالدعاء، ارتفعت الأكف من غزة إلى السماء:
اللهم صبّ علينا الشفاء والرزق الحلال صبًّا صبًّا،وبارك في عُمان وأهلها، واغمرهم بخيرك كما أغمرونا بحبّهم. اللهم اجعلهم من الذين إذا أعطوا لم يمنّوا، وإذا وعدوا وفَوا، وإذا أحبّوا أخلصوا.اللهم سخر لهم من جنود الأرض وملائكة السماء ما يقضي حوائجهم،وامنحهم نصيبًا من السكينة التي وزعوها على غيرهم.لقد عرفنا من خلالهم أن الخير حين يُصاغ بيد امرأةٍ مؤمنة،
ويُقاد بروحٍ رشيدةٍ كروح أم لؤي،
يمكن أن يُغيّر وجه مدينة بأكملها.

من غزة… إلى عُمان

سلامٌ إلى السلطنة الهادئة التي تُشبه نسيم البحر عند الفجر، وسلامٌ إلى شعبها الذي لا يتكلم كثيرًا، لكنه يفعل كثيرًا. سلامٌ إلى الأخيات الفضليات اللواتي قدّمن الحلوى،
فأعادن للناس الإحساس بأن الفرح ممكنٌ بعد الدمار.سلامٌ إلى القيادة العُمانية التي علّمت أبناءها أن الكرامة لا تنفصل عن الرحمة،
وأن القوة لا تُقاس بالسلاح، بل بقدرة القلب على الاحتواء.

وختامًا، يا عُمان… قد تخجل الكلمات من أن توفيكِ حقّك، لكنّ الدعاء لا يخجل.فمن غزة التي عرفت الألم، نرسل لكِ عرفانًا لا ينتهي:اللهم احفظ عُمان حكومةً وشعبًا،وبارك في قيادتها الرشيدة،واجعلها واحةَ سلامٍ وكرمٍ وإيمان،وازرع في دروبها نورًا لا يخبو. فما الحلوى التي قدّمتها الأخيات العُمانيات إلا رمزٌ للحياة حين تُقاد بالحب، وما أم لؤي إلا شاهدٌ على أن القيادة الحقيقية تبدأ من القلب، وتنتهي عند رضى الله. ومن غزة التي تبتسم رغم الألم نقول:جزاكم الله خيرًا، يا من جعلتم من الحلوى جسرًا من الجبر،ومن العطاء طريقًا إلى السماء، وسلامٌ من قلبٍ أنهكه القصف، لكنه ما زال يعرف كيف يحبّ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top