حين عادوا… فابتسم التراب

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

ما أعجب المشهد حين يلتقي الغبار بالدمع، وتختلط رائحة الركام بأنفاس النجاة! ها هي غزة – تلك المدينة التي أرهقها الحصار – تفتح ذراعيها لأبنائها، كأمٍّ أنهكها الانتظار لكنها ما فقدت الأمل لحظة. في وجوههم آثار الرحيل الطويل، وفي عيونهم بريق الحياة التي لا تنطفئ. تخطّ أقدامهم على ترابها أولى الخطوات، فيرتجف التراب فرحًا، كأنه يعرف أبناءه واحدًا واحدًا. ليس كل عائدٍ إلى وطنه يراه كما تركه، فالوطن الذي يُغسل بالدماء لا يعود كما كان، لكنه يعود أطهر، أصدق، وأقرب إلى السماء.

ليس جغرافيا بل ذاكرة حية

الوطن ليس تلك البقعة التي تُحدّ بخطوط الخرائط، بل ذاكرة تُسكن القلب وإن غابت العين عنها.
قد يسكن المرء الغربة، لكن الوطن يسكنه أكثر. من هناك، من وراء المعابر الموصدة، خرجت دعوات الأمهات كطيور لا تُصدّ، ومن هنا، من قلب غزة، كان النداء القديم:“ارجعوا، فالأرض ما زالت تحفظ أسماءكم في حبات الرمل.”قال الرافعي يومًا: “ليس الوطن مكانًا نعيش فيه، بل روحًا تعيش فينا.”وها هم أهل غزة يعودون ليبرهنوا أن الوطن، حتى وإن هُدم، يبقى قائمًا في القلب ما دام الإيمان حيًّا فيه.

حين يعود الناس، تعود القلوب

عجوز تتوكأ على حفيدها وتقول: “أريد أن أرى بيتنا ولو حجرًا منه.”
وشابٌّ يقف عند أطلال منزله المهدّم يبتسم ويقول: “الحمد لله… رجعنا.”
تلك الابتسامة وحدها تكفي لتكتب ملحمة، ففيها نصر الروح على الدمار، وقيام الحب من تحت الركام.
هنا، لا يعود الناس إلى بيوت فقط، بل إلى قصصهم المؤجلة، إلى رائحة الخبز التي كانت تُنذر بصباح آمن، إلى أصوات الأذان حين تمتزج بالبحر كأنها وعدٌ لا يموت. قال الشافعي: “حبّ الوطن من الإيمان.”ولم تكن غزة يومًا سوى ميدان اختبارٍ لهذا الحب، حبٍّ لا يُعلن في الأحاديث، بل يُترجم في الصبر، والبناء، والدموع التي لا تنكسر.

الوطن الذي يسكننا مهما تغيّر

كم من إنسان غادر وطنه ولم يبرحه، وكم من آخر أقام فيه ولم يعرفه!
الفرق بينهما أن الأول ترك جسده ومضى بقلبه، والثاني بقي بجسده لكن قلبه تاه. أما الغزيون، فقد بقوا بأرواحهم وإن هُجّروا، ولمّا عادوا، عادوا بألف معنى جديد للحياة.
هم يعلمون أن العودة ليست إلى البيوت فقط، بل إلى الكرامة،
إلى لحظة يرفع فيها الطفل رأسه ويقول: هذا وطني… وأنا فيه حيٌّ برحمة الله، وصدق من قال:
“الشعوب العظيمة لا تعرف الهزيمة، بل تعرف كيف تبدأ من جديد.”
وهكذا غزة، لم تنتصر على عدوّها فحسب، بل انتصرت على اليأس، على الموت، على صمت العالم.

مشهد يعصف بالمشاعر

تتقدّم امرأة بين الأنقاض، تمسك مفتاحًا صدئًا وتقول لابنها:“هذا المفتاح يا بنيّ ما زال يفتح الجنة، لا البيوت.” فتغلبها الدموع، لكن في عينيها يقين لا يُكسر. ذلك المفتاح ليس من حديد، بل من إيمانٍ قديم بأن الله لا يخذل من صبر.

هناك طفل يركض في الشارع المهدّم، يضحك، ثم يسقط، فينهض ضاحكًا من جديد. ضحكته – وسط الرماد – درسٌ في الفطرة التي لا تعرف اليأس. وفي الخلفية، الأذان يعلو من مئذنة رمّمها أهل الحيّ بأيديهم، ليعلن أن السماء ما زالت تسمع غزة، وأن الله قريب.

شاهد على الضوء

أيها القارئ، حين تفرغ من هذه الكلمات، لا تتركها عند حدود الورق.
تخيّل أنك تسير بين الأنقاض، تشم رائحة الأرض المبتلة بالدموع،وتسمع صدى الخطوات العائدة إلى الوطن…حينها، ستفهم أن العودة ليست حدثًا يُروى، بل وجعٌ يُشعر به، وأملٌ يُورث في الصمت. ابقَ شريكًا في القصة؛ بدعائك، بصمتك، برغبتك في أن يرى الناس ما رأت غزة،فدورك لا ينتهي عند القراءة، بل يبدأ منها، لأن الشاهد الصادق لا يكتفي بالمشاهدة، بل يُبقي الأمل حيًّا في القلوب.
أجنحة الإعمار الصامتة

وفي قلب هذا المشهد الكبير، تتحرك المؤسسات الإنسانية والمتطوعون بخطى تعبق بالتعب والعزيمة.لا تملك تلك المؤسسات ما تملكه الدول من الموارد، لكنها تملك ما هو أندر: الإرادة والإيمان.
يحمل المتطوعون أدواتهم البسيطة، يزيلون الركام، يرممون المدارس، يزرعون في التراب زهرةً من جديد.
هم الجنود المجهولون الذين يعيدون للحياة نبضها دون أن ينتظروا شكرًا أو شهرة. ودونهم، لما نهضت غزة من تحت أنقاضها،فلقد صار الإعمار هنا فعل عبادة، لا مشروعًا هندسيًا،وصار العطاء طقسًا من طقوس الإيمان بأن الخير لا يموت، حتى إن عجزت الدول عن النهوض.

حبّ الوطن… أيًّا كان

العودة إلى غزة تذكّرنا بحقيقة كبرى:
أن حبّ الوطن ليس شعورًا عابرًا، بل حالة إيمانية راقية، فمن أحبّ أرضه بإخلاص، أحبّ خلق الله فيها،ومن صان تراب بلده، فقد صان إنسانيته.
والوطن، أيًّا كان، يبقى قطعة من النفس، لا تنفصل إلا بالموت.حين ترى الغزّي يقبّل أرضه المدمّرة، تدرك أن الكرامة ليست رفاهية، بل هواء الروح.وحين ترى أمًّا تزرع وردة قرب بيت مهدوم، تفهم أن حبّ الوطن ليس نغمة حماس، بل سلوك حياة.

بين الألم والأمل

في طريق العودة، يمشي الناس على حواف الذكريات، يودّعون من رحلوا، ويستقبلون الحياة بأذرعٍ جُرّحت لكنها لم تيأس.كأن غزة تقول للعالم:
“أنا لست أرضًا تُقصف، بل روحًا لا تُقهر.” وما أشدّ الفرق بين من يسكن الوطن، ومن يجعل الوطن يسكنه كدعاءٍ دائمٍ في السجود.إنّ عودة أهل غزة تُذكّر كل إنسان أن حبه لوطنه هو امتحان إخلاصه لله أولاً،
فالإخلاص للأوطان لا يُقاس بالنشيد، بل بقدر ما نُصلح فيها، ونحفظها من الفتنة، ونبذل لأجلها الخير.

عودة الضوء

حين انقشع غبار العودة، بقيت الكلمات عاجزة عن وصف ما حدث.
فما من لغة تستطيع أن تحيط بمعنى أن الإنسان عاد من الموت إلى الأمل، ومن التيه إلى التراب الذي يعرف اسمه.ولعلّ أجمل ما في الصورة أن الوطن لم يكن غزة وحدها،بل كل أرضٍ يعشقها أهلها رغم الألم.إن حبّ الوطن لا يتجزأ،
فمن أحبّ غزّة أحبّ وطنه،ومن أحبّ وطنه بحقّ أحبّ كل أرضٍ يُرفع فيها اسم الله.

يا رب، اجعل لكل عائدٍ إلى وطنه أمنًا بعد خوف،واجعل لكل وطنٍ محزونٍ صبحًا جديدًا،وألهم قلوبنا شكر النعمة قبل فقدها،واجعلنا من الذين يزرعون الأمل في رماد الدمار،
ويحملون الأوطان في صدورهم كما تُحمل الأمانة في القلب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top