|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي
لم أكتب هذه السطور لأودّع، بل لأُكمل. فالعمر، كما علّمني الطريق الطويل، لا يُقاس بطوله ولا بعدد ما حصد من أيام، بل بما ترك في الناس من أثرٍ يظل بعد الغياب. وها أنا، وقد أقبلت على ضفة العمر الأخيرة، أجدني لا أُمسك بالقلم بيدي فقط، بل بروحي كلها، روح بلغت من التأمل مبلغ الحكمة، ومن الزهد صفاء البصيرة، ومن العمل الصالح راحة السعي إلى آخر الأنفاس.
تأمل البداية والنهاية
كنتُ يومًا أعدّ الحياة ساحة إنجاز، أهرول فيها بين الطموح والواجب، أظن أن الوصول يعني البقاء. لكن الأيام – وهي خير المعلمين -كشفت لي أن البقاء الحقيقي ليس فيما نبنيه، بل في النية التي سكنَت البناء.
تعلمت أن الله لا يزن العمل بكبره، بل بصفاء القصد. وهنا، تذكرت قول عمر بن عبد العزيز حين كتب في وصيته: “إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما.” فما كان ليلٌ يمرّ بي إلا وأحسستُ فيه نداءً خفيًّا يقول:“اعمَل كما لو أنك سترحل غدًا، وارجُ الله كما لو أنك ستلقاه الآن.”
زهد البصيرة لا زهد الهروب
كم ظنّ الناس أن الزهد انصراف عن الحياة، وما علموا أنه ارتقاء فيها.
فالزاهد لا يهرب من الدنيا، بل يتعامل معها بعين القلب لا بيد الطمع، ولقد تعلّمت أن من تمام الزهد أن تحسن العمل وأنت تعلم أنه فانٍ، لأن الإتقان عبادة، لا رياء.
وهنا أتذكر قول الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.” عبارة تختصر معادلة الحياة كلّها، وتعيد ترتيب الموازين حين تختلط القيم بالمظاهر، والصدق بالضجيج.لقد كان الزهد في جوهره صفاءٌ من الشوائب، لا انسحابًا من الميادين.
فمن عرف الله لم يعد يحتاج إلى كثير من الناس، لكنه ما زال يحبهم، ويخدمهم، ويبتسم لهم، ذلك هو الزهد المحب الذي لا يعرف القسوة ولا الادعاء.
بين أثرٍ يُكتب وأثرٍ يُشهد
كلّنا نكتب في هذه الحياة أثرًا،لكن بعض الآثار تُقرأ في السجلات، وبعضها يُشهد في الأرواح.ما نفع كتابٍ يُمدح، إن لم يترك في قلب يتيم دفء، أو في خاطر محتاج رجاء؟
وهنا أستدعي مقولة “إن كنتَ تبحث عن الجنة، فابحث عن قلبٍ أدخلت فيه السرور.” فما قيمة العمل إن لم يُهذِّب القلب؟ وما قيمة العبادة إن لم تُنبت الرحمة؟كلّ ذلك يقودني إلى خلاصة العمر: أن العمل الصالح لا يُورَّث، بل يُعاش.
وصيتي… إلى من بقي بعدي
لا تندبوا الفقد، ولا تُكثِروا الحديث عن الرحيل، بل تذكّروا أن كل من رحل قد سبقكم فقط بخطوة، وأننا جميعًا في الطريق ذاته، فلا أحد يموت قبل أن يبلغ تمام دوره في كتاب الله. وصيتي لكم: أن تزرعوا المعروف في أرضٍ لا تنتظر الشكر،
وأن تتركوا وراءكم عبقًا من صدق النية،فإن الله يُبارك في أثر الصادقين، ولو غابوا بأجسادهم. واجعلوا من الدعاء سلاحًا لا ينضب، ومن التسامح عادةً لا تكلّفًا. ولْيكن الإحسان إلى الناس طريقكم إلى الله، لا وسيلة إلى إعجابهم بكم، واعلموا أن أجمل ما يورّثه الإنسان بعده وجهٌ صافٍ من الخير في ذاكرة أحدهم.
حين يقترب المآل
حين يبدأ الصباح الأخير، لا تسمع الأرواح إلا صوت الحقيقة: كل ما كان من شهرة، زال،وكل ما كان من جدال، سكت، ولا يبقى إلا ما بينك وبين الله.
تلك اللحظة التي يُختصر فيها العمر كله في سجدة صدق ودمعة طهارة.
عندها فقط تفهم معنى قوله تعالى:
“يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.” ولستُ أزعم أني بلغت الكمال، لكنني – بفضل الله – تعلمت أن القلوب لا تنكسر حين تعرف طريق السجود، وأن الغايات لا تضل حين تكون النية وجه الله.
ما تبقّى من الرحلة
ما تبقّى من عمري ليس إلا فسحة شكر، أحمد فيها الله على ما مضى، وأستغفره عمّا قَصُر، وأرجوه لما هو آتٍ. علّمني المآل أن الرضا هو أعلى مراتب القوة، وأن السكينة التي يهبها الله لعباده الصالحين هي أجمل وداعٍ للحياة. وحين أنظر خلفي، لا أرى إلا لطفه الممتد في تفاصيل الأيام، وكم من تأخيرٍ كان رحمة، وكم من كسرٍ كان تقويمًا، وكم من فقدٍ كان فتحًا.
إلى الله المنتهى
يا رب، إن كانت هذه الرحلة قد بلغت خواتيمها، فاجعلها ختام صدقٍ لا انطفاء، واجعلني ممن يُقبَلون لا بما فعلوا، بل بما نويت لهم رحمتك.
اللهم اجعل فيمن بقي بعدي من يُكمل الخير لا باسمي، بل لوجهك الكريم، واجعل ذكراي سطرًا يُقرأ فيه حبك، لا اسمي.
وختامًا، هذه وصيتي، كتبتها لا لأودّع الحياة، بل لأصافحها للمرة الأخيرة بقلبٍ مطمئن. فقد علمت أن الطريق إلى الله لا يُقاس بخُطى الجسد، بل بخفقات القلب التي قالت “يا رب” في لحظة صدق. ولئن اقترب المآل، فإني أرجو أن يكون قريبًا من رحمةٍ لا تنقطع، ومن ربٍّ كريمٍ لا يخذل من لجأ إليه. وإذا مرّ أحدهم يوماً بكلماتي، فليقل: “رحم الله من كتبها، فقد صدق الله فيما أحبّه، وترك لنا أثرًا يُصلّي معنا بعد رحيله.”