حين يسبق الشكرُ المراجعة

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في المؤسسات الرائدة، ليست الرسائل مجرد حروفٍ تُرسل، ولا الشكر مجرّد مجاملةٍ تُقال، ولا المراجعة محضُ تدقيقٍ جامد. إنها منظومة متكاملة، تتناغم فيها القيم مع الأداء، والشفافية مع التحفيز، في لوحةٍ تُجسّد وعي القيادة ونضجها الإداري، حيث يكون الشكر خطوةً في طريق التطوير، لا نهايةً له.

في أحد المكاتب التابعة لمؤسسةٍ رائدة، وجّه المدير العام خطاب شكرٍ أنيقًا إلى أحد المكاتب الخارجية، امتنانًا لجهدٍ بذله في إنجازاتٍ ظاهرها الانضباط، وباطنها اجتهادٌ وإخلاصٌ مشهود. كانت الرسالة راقية في عباراتها، محفّزة في مضمونها، تعكس قيادةً تقدّر ولا تُقصي، وتؤمن أن الاعتراف بالفضل هو أول درجات الإلهام. إلا أنّ المشهد لم ينتهِ عند هذا الحد،إذ إنّ إدارة المشاريع، التي تحمل على عاتقها مسؤولية المطابقة والمتابعة، مضت بخطىٍ منهجيةٍ لتراجع تفاصيل الأداء، وتوازن بين الخطاب والواقع، بين ما يُكتب وما يُنجز. وهنا، انكشفت ملامحُ تباينٍ لم يكن في الحسبان: مشاريع مؤجلة، أعمال لم تُرفع في وقتها، وتواريخ إرسالٍ غابت عن التوثيق الدقيق.

حين أرسلت إدارة المشاريع قائمة المتأخرات للمكتب الخارجي، لم تُحمّله اللوم، بل استخدمت لغةً راقية تُجسّد روح المؤسسية الناضجة، فطلبت منه فقط أن يُشير إلى تاريخ الإرسال، لتكون الإجابة مفتاح الصدق، لا موضع الإدانة. لكن الردّ أتى صامتًا في البدء، ثم مشحونًا بالاعتذار لاحقًا. إذ تبيّن للمكتب أن ما اعتقده اكتمالًا كان في الحقيقة نقصًا مؤجلاً، وأن الشكر الذي سبق المراجعة كان ثقةً تستحق صيانةً لا تبريرًا. ولم تلبث الإدارة حتى تلقت اتصالاتٍ متتابعة من المكتب، تحمل نغمة الاعتذار، وشعورًا بالحرج، وإدراكًا بأن الثقة التي منحتها القيادة كانت تاجًا ينبغي صونه لا الاتكاء عليه.ذلك المشهد الإداري، بظاهره البسيط، يحمل في جوهره دروسًا استراتيجية عميقة.ففي المؤسسات التي ترنو إلى الريادة، الثقة ليست بديلاً عن المراجعة، والمراجعة ليست نقيضًا للثقة. بل إنهما جناحان لا تطير دونهما أي منظومة نحو الكمال. ولذلك قال بيتر دراكر:
“ما لا يُقاس لا يُدار، وما لا يُراجع لا يُتطور.” إنه يربط بين المعرفة والمساءلة، بين الإيمان بالإنسان وضرورة تقويمه. فالإدارة التي تُكرم أداء موظفيها دون أن تراجع أثرهم، إنما تُربّي الوهم لا الإنتاجية. أما التي تراجع دون أن تُقدّر، فهي تُطفئ جذوة الإبداع قبل أن تتقد.

لقد كان تصرف إدارة المشاريع في هذا الموقف نموذجًا للقيادة المؤسسية الرشيدة: جمعت بين التحفيز والانضباط، ووضعت معيارًا لا يُهين بل يُنضج، فالمؤسسات العظيمة لا تُحاسب لتُدين، بل تُحاسب لتبني. أما المكتب الخارجي، فقد تحوّل الموقف بالنسبة إليه إلى مرآةٍ صادقةٍ للذات. ففي لحظةٍ من الصدق، أدرك أن الشكر الذي ناله لم يكن نهاية المشوار، بل اختبارًا للوعي. وأن الاعتذار – متى صدر بصدقٍ وتجرد – هو أحد وجوه القوة، لا الضعف.

إن أجمل ما في هذه القصة أن القيادة العليا لم تتراجع عن شكرها، بل ثبتت عليه، مؤكدةً أن الجهد لا يُلغيه النقص، وأن الاعتراف لا يُناقض التصويب، وأن الأهم من الخطأ هو القدرة على إدارته بكرامةٍ ومهارة.
فالنهضة الإدارية ليست أن تُخطئ أو تُصيب، بل أن تحوّل الخطأ إلى معرفة، والمعرفة إلى منهج، والمنهج إلى ثقافةٍ مؤسسية تحفظ الهيبة وتُعمّق الشفافية.إنّ ما جرى يطرح تساؤلاتٍ قيادية جوهرية: كيف يمكن للمؤسسات الرائدة أن تُوازن بين العاطفة الإدارية والعقل المهني؟ وكيف تصون الثقة دون أن تتحوّل إلى غطاءٍ للتقصير؟إن الجواب يكمن في ما يمكن تسميته بـ فن المراجعة الذكية، مراجعةٍ لا تُطفئ روح الشكر، ولا تُعفي من دقة المساءلة.

لقد كتب العقاد ذات مرة: “القوة ليست في ألا تُخطئ، بل في أن تُراجع خطأك قبل أن يُراجعك غيرك.”
وهذا بالضبط ما فعلته المؤسسة الرائدة؛ إذ راجعت أداءها من داخلها، لا بضغطٍ خارجي، فكانت المراجعة ميثاقًا للتعلم الذاتي، ودليلًا على أن الرقابة حين تنبع من الداخل، تكون أصدق من ألف تقريرٍ خارجي.في مثل هذه التجارب، تتجلى معاني النهضة الإدارية الحديثة، تلك التي تُدرك أن التقدم لا يُقاس بعدد الإنجازات فقط، بل بعمق الوعي في إدارتها. النهضة ليست أرقامًا في الجداول، بل سلوكًا في الميدان، حيث يتكامل الشكر مع الرقابة، ويتقاطع الأداء مع الوعي، ليُنتج ما يمكن تسميته بـ الثقة الواعية — ثقةٌ مبصرة، لا عمياء، مبنيةٌ على التحقق لا الانطباع، وعلى الشواهد لا الشعور.

لقد أظهرت التجربة أن المكتب الخارجي لم يكن سيئ النية، لكنه وقع في مأزق الرضا المبكر – ذلك المرض الإداري الذي يجعل الفريق يرى نفسه مكتملًا قبل أن يُكمل المهمة. إن الرضا غير المتحقق أخطر من التقصير نفسه، لأنه يغلق باب المراجعة، ويُحوّل الشكر إلى غطاءٍ غير مقصودٍ للخطأ.ولذلك قال إيتشيرو ناكاجيما: “التحسين المستمر ليس سلوكًا طارئًا، بل هو ثقافةٌ تُنقذ المؤسسة من الغرور.”
وهذا ما تعلّمته تلك الإدارة من التجربة: أن الشكر لا ينبغي أن يُغلق العيون عن الحقيقة، بل أن يُحفّزها على أن ترى بوضوحٍ أكبر.حين ننظر إلى الموقف من علٍ، نُدرك أنه لم يكن مجرد تباينٍ في البيانات، بل نقطة تحولٍ في وعي المؤسسة.فالمكتب الخارجي خرج من الحادثة بضميرٍ يقظ، وإدارة المشاريع اكتسبت ثقةً أكبر، والمدير العام ترسّخت لديه قناعة أن القيادة الرشيدة لا تُبنى على المجاملات، بل على المزاوجة بين اللطف والصرامة، والتحفيز والمحاسبة. لقد أصبح الشكر في تلك المؤسسة لا يُمنح فقط على ما أُنجز، بل أيضًا على ما تم تعلمه من الخطأ، وأصبح الاعتذار لا يُعدّ هزيمةً، بل تعبيرًا عن الوعي المؤسسي الراقي.

ولعل في هذه القصة ما يُذكّرنا بقول الرافعي:“ما أكرم النفس التي تُراجع ذاتها قبل أن يُراجعها الزمان.”
ذلك لأن الزمان لا يُنصف من يغفل عن تصحيح خطئه، والمؤسسات التي لا تراجع نفسها تُصبح كالسفينة التي تُبحر بلا بوصلة؛ جميلة في مظهرها، لكنها لا تعرف أين ترسو.إن ما يميّز المؤسسات الرائدة اليوم ليس حجم مواردها، بل نضجها الإداري وقدرتها على التعلم من كل موقف. فالمراجعة ليست اتهامًا، بل بحثٌ عن الكمال، والشكر ليس نهاية المسيرة، بل إعلان بدايةٍ جديدةٍ بثقةٍ أعمق. إنها دورة الحياة الإدارية المتجددة: شكرٌ يُنبت ثقة، وثقةٌ تُثمر أداء، وأداءٌ يُدقّق فيثمر وعيًا، ووعيٌ يُفضي إلى شكرٍ جديد – وهكذا تستمر النهضة المؤسسية في دورانٍ جميلٍ لا يعرف الجمود.لقد أثبتت تلك الحادثة أن المؤسسات لا تُقاس بغياب الأخطاء، بل بسرعة تصحيحها، وأن أعظم ما تصنعه القيادة هو بناء بيئةٍ لا تخاف من المراجعة، ولا تُخفي تقصيرها، بل تتعامل معه كفرصةٍ للتجديد.
فالثقة حين تتغذى على الشفافية، تُصبح أثمن من الذهب، لأنها تُنتج صدقًا لا يُشترى، وولاءً لا يُفرض، ومسارًا لا يُزيّفه أحد، وفي ختام هذه القصة الملهمة، يمكن القول إن ما حدث لم يكن خطأً إداريًا بقدر ما كان منعطفًا في الثقافة المؤسسية، فقد خرج الجميع أكثر وعيًا، وأكثر احترامًا للمنهجية، وأكثر إدراكًا لمعنى القيادة التي لا تكتفي بأن تُصدر الشكر، بل تزرع خلفه روح المساءلة البنّاءة.إنها القيادة التي تعرف أن الشكر بلا مراجعة يُورِث الغفلة، والمراجعة بلا شكر تُورِث الجفاء، وأن النهضة الحقيقية هي حين يُصافح التحفيزُ الانضباطَ، فيتولد من لقائهما ضوءٌ جديد يرفع المؤسسة إلى حيث تُرى من بعيد، رائدةً في فكرها، متوازنةً في نهجها، شفافةً في روحها، نبيلةً في أدائها. فلتكن مؤسساتنا – إذًا – على خطى هذه التجربة، تمنح الشكر بصدق، وتُراجع بأدب، وتتعلم بتواضع، لأن الريادة ليست أن تصل أولًا، بل أن تبقى نقيًا حين تصل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top