العطاء الخالد: كيف تبني المؤسسات الخيرية أجيالاً تحمل مشاعل الإنسانية

Getting your Trinity Audio player ready...

محمد تهامي

مستشار التطوير المؤسسي والمشروعات

في عالم العمل الخيري، لا تُقاس النجاحات فقط بالمشاريع المنجزة، بل بما تزرعه المؤسسات من قيم تُغير حياة الأفراد وتترك أثراً عميقاً يتجاوز الزمن، هذه قصة استثنائية تروي كيف أن استقامة المؤسسات والتزامها برسالتها يمكن أن تصنع أجيالاً تحمل مشاعل الإنسانية، وتحول العطاء إلى إرث خالد.

قبل ثلاثين عاماً، في إحدى المناطق النائية، فتحت مؤسسة خيرية أبوابها لإنقاذ الأرواح وبناء الإنسان، كان أحد الصبيان يجد في برامجها أمله الوحيد للخروج من نفق الفقر والظروف القاسية، هناك، لم يكن الدعم مقتصرًا على تقديم المساعدة المادية، بل كان شاملاً للجانب الإنساني والأخلاقي، بفضل شخصيات ملهمة ضمن الهيئة الإدارية للمؤسسة، كان أعمدتها فريقًا نذر حياته لتمكين الأفراد من العيش بكرامة، فغرس في نفوسهم قيم الإيثار وحب الوطن والالتزام بالمسؤولية الاجتماعية، مرّت السنوات، وكبر ذلك الصبي ليصبح نموذجًا حيًا لرؤية المؤسسة ورسالتها، رغم ابتعاده الجغرافي، ظلت قيمها مغروسة في قلبه، وحين سنحت له الفرصة، قرر زيارة أحد أعمدة تلك المؤسسة الذي ترك أثراً عميقاً في حياته، اللقاء، بعد ثلاثين عاماً من الفراق، لم يكن عادياً؛ كان أشبه بعودة الابن إلى منبعه، يروي ظمأ الشوق بذكريات الماضي التي تحمل عبق التضحية والعطاء.

استقبله المضيف بحفاوة تعكس صدق العلاقة التي جمعت بين المؤسسة وخريجيها، أعد مأدبة عامرة، ليست مجرد طعام وشراب، بل لوحة من الكرم الذي يفيض بالمودة والوفاء، جلسا يتحدثان عن تلك الأيام التي شكّلت معاني الإنسانية، وعن أثر المؤسسة في صنع أجيال قادرة على مواجهة التحديات وتحقيق التغيير، في ختام اللقاء، أصرّ المضيف، الذي لا يزال مرتبطًا برؤية المؤسسة، على إيصال ضيفه إلى الفندق، وفي لحظة مفعمة بالحب والتقدير، قدم له هديتين: واحدة له وأخرى لأسرته، قال وهو يسلمهما: “هذه ليست مجرد هدية، بل رمز لتلك الأيام التي جمعتنا على درب الخير.”

عاد الضيف إلى موطن إقامته محملاً بالذكريات والهدايا، مرت الأيام، حتى اكتشفت زوجته أن إحدى الهدايا الموجهة للأسرة كانت قطعة ذهب، أخبرته بالأمر دون أي اعتراض أو تردد، بل بنبل يعكس فهمها العميق لشخصية زوجها وقيمه، جلس يفكر مليًا، ثم قال: “هذا الذهب يحمل رسالة أعمق من مجرد قيمته المادية، وطني اليوم أحوج إليه من أي وقت مضى.” حمل الذهب إلى السوق، وباعه، وأرسل قيمته لدعم مشروعات إنسانية تخفف عن وطنه الجريح، لم تكن تلك الهدية في نظره مجرد تذكار، بل فرصة لإعادة الأمل لمجتمعه، وبعد شهور، تمكن من شراء قطعة ذهب أخرى، وقدمها لزوجته بحب قائلاً: “هذا لكِ، أما الهدية الأولى، فقد أصبحت بصمة أمل لوطننا.”

ختامًا، هذه القصة ليست مجرد سرد لأحداث عابرة، لا تحكي فقط عن لقاء بين شخصين بعد عقود، بل عن استقامة المؤسسات التي تصنع أجيالاً تحمل قيمها، وعن استدامة العلاقة بين إدارتها وخريجيها، بل هي تجسيد حقيقي لقيم الاستقامة المؤسسية التي تبني الإنسان، ولعلاقة متجددة قائمة على الوفاء والإيمان بقدرة العطاء على إحداث التغيير، فالعطاء ليس مجرد مواقف وقتية، بل هو ثقافة متجذرة تُصنع في رحم المؤسسات الخيرية الرائدة وتستمر عبر الأجيال، إن حب الوطن والتضحية من أجله، بالإضافة إلى الوفاء للعائلة، هي قيم لا تقتصر على الأفراد، بل تمتد لتشكل هوية المجتمع برمته، كما قال الرافعي: “إن أعظم شيء يمكن أن يُقدّم للإنسان هو أن يُبنى في ذاته، لا في ماله، لأن الإنسان عندما يُبنى يصبح قادرًا على بناء الأوطان.” وهذا هو الجوهر الذي تصنعه المؤسسات الإنسانية، فإنها لا تبني الأفراد فحسب، بل تبني أمةً بكاملها، فكل العظمة الإنسانية تكمن في شيء واحد: أن نحول ما نملكه إلى خير للجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top