|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
مستشار التطوير المؤسسي

في سكون الليل الرمضاني، حين تتنزل البركات، ويخبو ضجيج الدنيا، اجتمع الزمن ليشهد حوارًا لم يعرف له التاريخ مثيلًا. كانت الليالي تتنفس بصمت، تتأمل في سعي البشر، بينما وقف العشرون الأول والعشر الأواخر وجهًا لوجه، في لقاء لا تكرره الأيام إلا مرة واحدة كل عام.
تنهدت العشرون الأولى قائلة: “أنا البداية، المدخل إلى عالم الرحمة، جئتُ والقلوب تائهة، متعبة من سنة كاملة من الضياع والانشغال، فجئتُ كنسيم الفجر، أوقظ الأرواح من سباتها، وأذكرها بأن رمضان قد حل، وأن أبواب الجنة فُتحت، وأن فرصة العودة قد بدأت.”
ابتسمت العشر الأواخر برفق، وقالت بصوت يشبه همس التاريخ: “جميلٌ ما فعلتِ، لكن البداية لا تكفي، فالطريق الطويل يحتاج إلى نهاية تُخلِّده، وما قيمة مَن يستعدُّ ثم لا يبلغ غايته؟ أنتِ أشعلتِ المصابيح، وأنا من يقود السفينة إلى مرفئها الأخير.”
رفعت العشرون الأولى رأسها، ورفّت في صوتها لمحة فخر: “وهل نسيتِ أنني كنت مهد النصر الأول؟ يوم بدر، يوم فُرِزت الصفوف، يوم انتصر القليل بإيمانهم على الكثير بجبروتهم. ألم أكن شاهدة على أول قطرة دم في سبيل الله، وأول صيحة حق زلزلت جبال الباطل؟”
تنهدت العشر الأواخر، وقد بدا في ملامحها عمق الزمن وأسرار الليالي: “لا أنكر فضلك، لكنني كنتُ اللحظة التي أتمَّت كل شيء، كنتُ الليالي التي نزل فيها الفتح الأكبر، يوم طهرتُ مكة من الأصنام، وأعدتُ البيت العتيق إلى طهارته الأولى، يوم دخل الناس في دين الله أفواجًا، وانكسرت عن الأرض سلاسل الوثنية إلى الأبد.”
ساد الصمت للحظة، كأن الليل نفسه يصغي لهذا الحوار النادر، قبل أن تهمس العشرون الأولى: “لكنني كنت المدرسة التي أعدت القلوب لك، كنتُ أنا الأيام التي دربت الأرواح على الصيام والصلاة والذكر، وما كان لأحد أن يدركك إلا بعد أن يمر بي.”
ابتسمت العشر الأواخر بحكمة من خبر الأسرار كلها، ثم قالت: “صحيح، لكنك تعلمين أن للأعمال خواتيمها، وأنا الخاتمة، وأنا اللحظة التي تتقرر فيها المصائر. ليلة واحدة مني تساوي ألف شهر منكِ، فيّ تُكتب الأقدار، وفيّ تنزل الملائكة، وفيّ يختبئ السر الأعظم: ليلة القدر.”
ارتجفت العشرون الأولى لهذه الكلمات، ثم مالت برأسها احترامًا، وقالت بصوت خافت: “كنتُ الطريق، وأنتِ البوابة. احملي عني الأمانة، وأخبري الذين تعبوا فيَّ أن الثمرة قريبة، أن الباب مفتوح لمن يطرق، وأن الله ينادي كل ليلة: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟”
أومأت العشر الأواخر برضا، ثم رفعت يديها إلى السماء ودعت: “اللهم اجعلنا من المقبولين، وأعنا على قيام لياليك، وافتح لنا أبواب الرحمة، ووفقنا لليلة القدر، واكتب لنا فيها الخير كله.”
وهكذا انتهى الحوار، لكنه لم يكن حوارًا عابرًا، بل وصية الزمن للأحياء: أن البدايات جميلة، لكن النهايات هي التي تصنع الفرق.