موائد الأم في ليالي الاعتكاف: نهر الحب الذي لا ينضب

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

مستشار التطوير المؤسسي

محمد تهامي

مستشار التطوير المؤسسي

في ليالي رمضان الأخيرة، حيث تهدأ الأصوات وتخفت الأضواء، وحيث الأرواح تقترب من بارئها أكثر، كنا نعيش طقوس الاعتكاف بقلوب متجردة، سعينا فيها أن نتخفف من الدنيا كما يتخفف الطائر من عبء جناحيه ليحلق عاليًا. كنا هناك، في المسجد، نصوم عن كل شيء إلا الذكر، نعيش على فتات طعام لا يكاد يملأ اليد، نفرح بلقمة بسيطة من الفول والفلافل والجبن المتواضع، وكأننا نقول لأنفسنا: “هكذا يكون الصفاء.. هكذا يكون القرب.”

لكن الأب، وهو الذي حفظ تفاصيل أبنائه كما تحفظ الأرض آثار المطر، لم يكن ليدع المشهد يمرّ بلا توقف. جلس بيننا ذات مساء، يرقب ما نأكل، يقلب نظره بين الأطباق الصامتة، ثم قال بصوت يحمل مزيجًا من العتاب والدهشة: “أهذا إفطاركم؟!” لم يكن السؤال في حاجة إلى إجابة، فابتسامتنا الراضية كانت أبلغ رد.

عاد إلى المنزل محملًا بصورة لم تفارقه، وكأنها رسالة يجب أن تصل إلى قلب الأم، إلى تلك الروح التي لا تعرف أنصاف الحلول في الحب والعطاء. وحين نقل إليها الخبر، لم تسأل كثيرًا، لم تحتج إلى تفكير أو تردد، بل تحرك في داخلها ذلك النهر الذي لا يجف، ذلك القلب الذي لا يُعرف له شح. وكأنها سمعت نداءً خفيًا يقول: “أين أنتم من مائدة الأم؟! أين أنتم من دفء البيت؟!”

ومنذ تلك الليلة، تبدّل كل شيء. لم يكن الفجر يشرق حتى تكون الأم قد أعدّت قائمة الطعام بعناية، لا تكرر صنفًا مرتين، وكأنها أرادت أن تجعل لكل ليلة نكهة جديدة، طعمًا لا يُنسى. وبدلًا من صحن الفول البسيط، جاءت صينية الكرام التي أصبحت طقسًا يوميًا، يملؤها المحشي بأنواعه، كرنفال من الألوان والروائح، حيث الأوراق الملفوفة بحب، تنفتح كأنها تزهر على موائدنا، ورائحة البهارات تختلط بالدعاء، بالرضا، بالامتنان.

كان الثريد حاضرًا في المشهد، يشبه تاريخنا كله، يشبه الجدات حين كنّ يغمسن قطع الخبز في المرق الدافئ، يشبه الذاكرة حين تبقى طرية مهما مرّ عليها الزمن. وكان اللحم يتفنن في حضوره، محمرًا يأخذ لونه من نار العطاء، أو مسلوقًا ينضح بعصارة الحنان، أو مطهوًا بالصلصة وكأنه يغرق في نهر من الطمأنينة. أما الأرز المعمر، فقد كان أيقونة الموائد، بوجهه المقرمش، يخبئ تحته أسرار الطهي ببطء، تمامًا كما تخبئ القلوب مشاعرها النقية تحت ملامح الصمت.

لم يكن الأمر مجرد طعام، لم تكن المسألة تتعلق بالشبع، بل كانت رسالة حب تصل كل ليلة إلى المسجد قبل أن تصل الموائد، كان عطاءً ممتدًا من قلب لم يعرف إلا البذل، وكان درسًا في أن الحب لا يحتاج إلى إعلان، بل يكفي أن يُسكب في التفاصيل، في الملاعق الممتلئة، في التنوع الذي يراعي أذواق الجميع، في انتظار الأم أن تسمع الدعاء يصلها من بعيد وهي لا تزال في المطبخ ترتب صينية اليوم التالي.

وفي كل ليلة، كنا ننتظر الإفطار ليس للجوع، بل لمفاجآت صينية الأم، كنا نفتح الغطاء وكأننا نفتح رسالة مختومة بمهر الحنان. وكنا نشعر بها معنا، رغم أنها لم تكن هناك، كانت تجلس في بيتها، تراقب الساعة، تحسب متى تكتمل اللقمة في أفواهنا، متى نشعر أن العالم لم يكن ليكون جميلًا بهذا الشكل لولا الأمهات.

والآن، حين تمرّ السنوات، ونجد أنفسنا في رمضان جديد، على موائد أخرى، بأطعمة قد تكون أفخم وأغنى، نشعر أن شيئًا ناقصًا. نبحث في النكهات عن أثر ذلك الحب، نحاول أن نرى صورة الأم في تفاصيل الطعام، في رائحته، في ترتيبه، في حرارته التي لم تكن حرارة الفرن وحده، بل حرارة القلوب التي كانت تطهو.

حين نرفع الغطاء عن أي طبق، نشعر بظلها، نشعر أن الموائد وإن كثرت، فإن صينية واحدة من صوانيها كانت تكفي ليكون رمضان أجمل، ليكون الحب أوضح، ليكون العطاء درسًا لا يُمحى.

رحمك الله يا أمي، وسقى قبرك بماء ذلك النهر الذي لم ينضب، نهر الحب الذي كنتِ تفيضين به دون انتظار مقابل، ودون أن تنتظري أن يقال: “شكرًا.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top