رمضان… القائد الذي يعيد تشكيل الإنسان والعالم

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

مستشار التطوير المؤسسي

محمد تهامي

مستشار التطوير المؤسسي

في زمنٍ يتسارع فيه إيقاع الحياة، ويتلاشى فيه التأمل لصالح العجلة، ويُختزل الإنسان في دوامةٍ من الاستهلاك والانشغال، يظهر رمضان، لا كشهرٍ يمرّ في التقويم، بل كقائدٍ حقيقي، يمسك بزمام الزمن، ويعيد تشكيل الإنسان من الداخل. إنه القائد الذي لا يشبه أحدًا، لا يرفع الشعارات، ولا يفرض الأوامر، لكنه يقود بلا مقاومة، فيهيمن على القلوب والعقول بسلطته الهادئة، ويعيد ترتيب الأولويات دون ضجيج. إنه التجربة التي لا تترك أحدًا كما كان، فإما أن يخرج الإنسان منها أقوى، أكثر وعيًا، وأكثر قدرةً على فهم ذاته، أو أن تضيع منه الفرصة، ليبقى أسير عاداته القديمة.

ليس في التاريخ قائدٌ تمكن من ضبط حياة مليار ونصف مليار إنسانٍ في لحظةٍ واحدةٍ كما يفعل رمضان. إنه يضع قانونًا صارمًا، لا يتقدم دقيقةً ولا يتأخر، يجبر الجسد على الخضوع لإرادة الروح، ويجعل الإنسان سيد نفسه لا تابعًا لشهواته. لا شرطيٌّ يراقب، ولا سلطة تُجبر، لكن الامتثال شبه مطلق. حين يحين الفجر، يتوقف الجميع عن الطعام والشراب، وحين تغرب الشمس، يجتمع الناس حول موائدهم، في نظامٍ عجيبٍ لا يفرضه قانونٌ بشري، لكنه أقوى من أي نظامٍ وضعه البشر. فأيّ قائدٍ في التاريخ استطاع أن يُخضع هذا العدد الهائل من الناس لنظامٍ طوعيٍّ صارم، يجعلهم يستيقظون ويأكلون ويصلّون في أوقاتٍ محددةٍ بدقةٍ متناهية؟ أيّ سلطةٍ نجحت فيما يفعله رمضان بلا قهرٍ ولا تهديد؟

لكن القيادة الحقيقية ليست في القدرة على فرض النظام فحسب، بل في إحداث التغيير العميق، وهنا تتجلى عبقرية رمضان. فهو لا يعيد ضبط جدول الإنسان اليومي فقط، بل يعيد تعريفه لمعنى القوة والانتصار. يعتقد كثيرون أن الانتصار أن تمتلك، أن تحصل، أن تزداد، لكن رمضان يعلّم درسًا آخر: أن القوة الحقيقية ليست في الأخذ، بل في القدرة على التخلّي. أن تنتصر على جوعك وعطشك، أن تقول “لا” حين يكون من السهل أن تقول “نعم”، أن تملك نفسك حين تشتد عليك الرغبات. وهكذا، يصبح الصيام تدريبًا على أعظم أنواع القيادة: قيادة الإنسان لنفسه، وهذا ما قاله أفلاطون يومًا: “أعظم الانتصارات هي أن تنتصر على ذاتك”.

في كل عام، يأتي رمضان ليضع البشر في اختبارٍ وجوديٍّ دقيق، اختبار الصبر والانضباط والإرادة. وحين يجتازه الإنسان، يدرك أن حياته لم تكن سوى سلسلةٍ من الخيارات التي لم يكن يراها بوضوح. يدرك أن الجوع ليس مجرد إحساسٍ في المعدة، بل رسالةٌ إلى العقل والروح، وأن العطش ليس مجرد حاجةٍ بيولوجية، بل تدريبٌ على فهم الندرة، على الشعور بالآخرين، على أن يكون الإنسان جزءًا من إنسانيته لا مجرد كائنٍ استهلاكي.

ليس غريبًا أن أعظم لحظات التاريخ الإسلامي وقعت في رمضان، ففيه خاض المسلمون معركة بدر، حيث كان الجسد في أضعف حالاته، لكن الروح كانت في أقوى حالاتها، وفيه كان الفتح العظيم لمكة، حين تجلت القيادة الحقيقية في أسمى صورها، قيادةٌ لم تكن انتقامًا بل عفوًا، ولم تكن إذلالًا بل كرامة. لقد كان رمضان دائمًا ساحةً لاختبار القيادة، لأنه يكشف الإنسان أمام نفسه، يجعله يرى ضعفه وقوته بوضوح، ويضعه أمام معادلةٍ صارمة: إما أن يكون تابعًا لشهواته، أو أن يكون سيد نفسه.

وما يميز رمضان عن أي تجربةٍ أخرى، أنه لا يؤثر في الفرد فقط، بل في المجتمع كله. فهو القائد الذي لا يكتفي بإعادة تشكيل الإنسان، بل يعيد بناء العلاقات بين الناس. فجأة، يصبح العطاء أكثر حضورًا، يصبح الإحساس بالآخرين أكثر عمقًا، تسري روح التكافل في المجتمع كما لم تكن في أي وقتٍ آخر. إنها لحظةٌ نادرةٌ في الزمن، حيث يشعر الفقير أن الجميع يعيشون إحساسه، وحيث يتعلم الغني أن الامتلاك ليس الامتحان الحقيقي، بل ماذا يفعل بما يملك. قال نيتشه: “ما يجعل الإنسان عظيمًا ليس ما يملكه، بل كيف يتصرف حين يملك”، ورمضان هو اللحظة التي تعيد تعريف هذه الفكرة في أذهان البشر، حيث يتحول الامتلاك إلى وسيلةٍ للعطاء لا للاستئثار.

لكن رمضان لا يمنح الإنسان هذه الدروس نظريًا، بل يجعله يعيشها، يتذوقها، يختبرها يومًا بعد يوم، حتى يصبح جزءًا من نسيجه الداخلي. ولهذا، حين ينتهي، لا يخرج منه الإنسان كما دخل. لقد أصبح أكثر وعيًا بقدراته، أكثر فهمًا لقوته وضعفه، أكثر إدراكًا لحقيقة أن الحرية ليست أن تفع

ل ما تريد، بل أن تكون قادرًا على ألا تفعل. وهذا ما قاله أرسطو قبل قرون: “الحرية الحقيقية هي أن تكون سيد نفسك”، ورمضان هو المدرسة الكبرى لهذا الدرس، حيث يتعلم الإنسان أن يكون سيد شهواته لا عبدًا لها، أن يقود غرائزه بدل أن تقوده، أن يكون صاحب القرار في حياته لا مجرد ردّ فعلٍ على رغباته.

ومع كل ذلك، يظل رمضان لغزًا محيرًا. كيف لشهرٍ واحدٍ أن يفعل كل هذا؟ كيف يمكن لزمنٍ أن يكون معلمًا، أن يكون ميدانًا للتدريب، أن يكون نظامًا للقيادة الذاتية والمجتمعية في آنٍ واحد؟ إنه القائد الذي لا يشبهه أحد، القائد الذي لا يأتي ليأخذ شيئًا من الإنسان، بل ليمنحه نفسه من جديد. وفي نهايته، لا يسأل الصائم: “كم من الساعات صبرت؟” بل يسأل: “ماذا تعلمت؟ من أصبحت؟ وما الذي بقي مني بعد أن رحل؟”. لأن القيادة الحقيقية لا تكون في الأوامر، بل في التغيير، ورمضان يغيّر الإنسان كما لا يفعل أي شيءٍ آخر في هذا العالم.

المقال عـلـى موقع الوطــن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top