مائدة لا تُنسى في مساء الإثنين… صيام، أذان، ومدائح الطيبين

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في مساءٍ تتواشج فيه الروح مع الغروب، وتهمس فيه السكينة لقلوبٍ صامتة بالصبر، حلّ يوم الإثنين 21 أبريل 2025 بنفحاته الطاهرة، محمّلًا ببركات صيام النوافل، حيث اجتمع فضل الإثنين، وبهاء الست من شوال، وجمال الصحبة، على مائدةٍ لا تُنسى، كان بطلها رجل من طراز الأنقياء، وشيخ من طينة الصفاء، -ولا نزكيه على الله- د مدحت الشنواني، المعروف بين الصحب بلقب “د أبي يحيى”، يُطعم من جوع، ويؤنس من وحدة، ويُفطر الأرواح قبل الأجساد.

كان كل شيء قد أُعدّ بعناية لا يخطئها القلب، ولكن ما خُبّئ في تفاصيل المساء لم يكن طعامًا فحسب، بل لوحة حب، وعبادة، وسيرة متوارثة من الصالحين الذين كانوا يرون في ضيافة الإفطار جزءًا من التهجد، وشكلًا من أشكال الذكر العملي. وحين اقترب أذان المغرب، لم يكن الجوع ما يُلحّ، بل الشوق إلى لحظة الإفطار الجماعي، إلى ذلك التمر الذي لا تُقام المائدة إلا به، حبات تتربع في صحن صغير كأنها مفاتيح الرحمة، وبجانبها عصير الليمون بلونه الفاتح الذي يشبه وضوء الروح، وعصير المانجو والبرتقال وكأنهما امتداد لأشجار الجنة في أكواب زجاجية تعكس نور الأذكار.

حين صدح الأذان، توقفت الأرواح في سكون عجيب، واستجاب الجسد بندى الطاعة، ثم ارتفعت الأكف بالدعاء، وغمر الصمت المكان كأن السماء تنصت. تلت الأذان لحظة قيام للصلاة، فيها من الخشوع ما لا يُنسى، وما إن انتهت الصلاة، حتى انبثق الفرح من المطبخ، وأقبلت المائدة كقصيدة أُعدّت بعناية شاعرٍ يعرف كيف تلامس الكلمات وجدان قارئه، كانت البداية من الأرز بالخلطة وقطعة البط المتربعة عليه كسلطان في عرش الذاكرة، تفوح رائحته بمزيج من القرفة والمكسرات، كأنما استعادت المائدة وصفات الأمهات الأوليات. وبجواره، طبق منسف بلحمٍ طريّ يفوح منه عبق الشرق، وشرابه الدافئ يغمر الأرز كأنه يغسل تعب الصيام، وتُرفع اللقمة منه على استحياء، كمن ينهل من مائدة الكرم النبوي، ولم تكن المائدة تكتفي بذلك، بل امتدت فتنتها إلى طبق رول المسخن الفلسطيني، ملفوف بدقة كحكاية من الأرض المحتلة، محشوٌّ بالدجاج والبصل وزيت الزيتون، ويصرخ بصمتٍ أنه ليس مجرد طعام، بل رمز، وسيرة، وذاكرة شعب. وإلى جواره، طُرحت فتة المتبل كوجه الشام الحزين، بطحينة وليمون، ناعمة كحروف الرحمة. ثم جاءت الخضار السوتيه، مطهوة على البخار، وكأنها من حديقة في الجنة، طازجة في ملمسها، هادئة في نكهتها، تريح المعدة بعد عناء، وتُرضي العين قبل الفم. أما السلطة، فكانت كلوحة سريالية، ألوانها تتحدث: طماطم نضجت تحت شمس الكرم، خيار مقطّع بعناية المحبين، فلفل ملون وقلوب خس خضراء كأنها آيات من المصحف.

ولم يكن البوفيه مجرد طعام، بل طقس من طقوس البهجة، يتنقل فيه المدعوون كما يتنقّل الطير بين أغصان الراحة، يأخذون ما يروقهم، ويفيض الكرم من كل اتجاه. ثم جاءت الحلويات كخاتمة شكر لا تُقال بالكلمات: تشيز كيك مخملي، تتقاطع فيه طبقات الحلوى مع التوت وكأنها طبقات من السكينة، وطبق بطيخ قطّع بإبداع كأنه يوزّع قلوبًا صغيرة حمراء على الضيوف، وطبق قصب السكر، لم يكن مجرد عيدان للحلاوة، بل قضبان من نور، قُطّعت بلمسة هندسية بارعة تدل على صانعٍ لا يصنع إلا الجمال، تتكسر بين الأسنان كما تتكسر الهموم في حضرة الفرح.

أما البقلاوة، فقد جاءت كدلالة على أن الشرق لا يزال يُتقن حياكة الحلوى، بعيونٍ لوزية، وطبقات مقرمشة، يعلوها الفستق كالذهب المسكوب. ثم جاء الشاي، حارًا متوّجًا بالمرمية، كأنما يسكب الطمأنينة في الكوب، ويهمس للروح أن المساء لم ينتهِ بعد، وأن في كل رشفة منه تسبحة خفية، لا يسمعها إلا من صفا قلبه، الشاي عند أبي يحيى ليس مشروبًا، بل مجلس، وركن محبة، ونقطة التقاء بين الأرواح.
في كل هذا الجمال، لا يمكن أن يمر الحفيد عمار دون أن يُضفي لمساته العذبة، ذلك الصغير الذي يتنقل بخفة بين الكبار، يبحث عن ألعابه، ويترك ضحكاته على أطراف السفرة، خفيف الظل، ما شاء الله، وكأن حضوره يُتمّ الحكاية، ويربط الزمن القادم بالحاضر. كانت حركاته الصغيرة، طلباته البريئة، تقلبات وجهه، مزيجًا من براءة الطفولة وروعة الاستمرار، خماسية وسداسية مع جدته حفظها الله ورعاها، كلمة سر لم نعرفها، يلوّن المكان بالحياة، ويذكّر الجميع أن الخير ممتد، وأن الحب الحقيقي هو ما يُورث في البيوت.

وفي نهاية المساء، حين همدت الضوضاء الخفيفة، وهدأ كل شيء، شعر الحاضرون أن هذا الإفطار لم يكن يومًا عابرًا، بل مشهدًا خالدًا، ومقامًا من مقامات الذكر. شعروا أن هذا الطعام لم يكن طعامًا فقط، بل ترجمة صامتة لعبادة الصيام، ولسرّ الكرم حين يُدار بأيدٍ مؤمنة، وقلب نقي، وروح اسمها مدحت، وكنيتها: أبو يحيى.
وهكذا، تُختم المائدة لا بتخمة، بل بذكرٍ، ودعاء، وشكر، على ما كان، وعلى من كان، وعلى اللحظة التي ستظل، ما حيينا، منقوشة في القلب: مساء الإثنين، مع أبي يحيى، حيث اجتمع الطعام، والرحمة، والذكر، على مائدة واحدة… لا تُنسى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top