|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

في صباحٍ هادئ من أيام زيارتنا لجامعة زنجبار، كنا نخطو ببطء في ممراتها الهادئة، نستنشق عبير المعرفة من جدرانها التي تحفظ في طيّاتها قصصًا لا تُعدّ ولا تُحصى من الطموح والكفاح والحلم. كل ركنٍ فيها يحكي سيرةً مجهولة، وكل مبنى يروي تاريخًا من العرق والسهر والنجاح. وبينما كنا نتجول في الحرم الجامعي، لفت أنظارنا مبنًى حديث، أنيق الطلعة، مشرق الواجهة، ينبض بالحداثة، وتتراقص على نوافذه أضواءٌ لا تشبه إلا بريق العقول التي ستنهل من داخله. اقتربنا منه وقد أشار إلينا مرافقنا قائلًا: “هذا أحدث مبنى في الجامعة… مبنى التعليم عن بُعد.”
كنا على وشك أن نواصل سيرنا كأي زيارة بروتوكولية عابرة، حتى طرح أحدنا سؤالًا بسيطًا لكنه كان مفتاحًا لقصة لم تخطر على بال: “من الجهة المانحة لهذا المبنى؟” سؤال طبيعي تمامًا في مثل هذه الجولات، فالمنح والدعم جزء لا يتجزأ من قصص الجامعات في القارة، خصوصًا في هذا الزمن الذي تتشابك فيه التنمية بالعلم، والتغيير بالإيمان بالمستقبل. لكن الإجابة لم تكن عادية… بل كانت مفاجأة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. قال المرافق: “هذا المبنى ليس تبرعًا من مؤسسة أو حكومة أو منظمة دولية، بل هو إهداء من أحد خريجي الجامعة… شاب من كينيا.” صمت الجميع لحظة. من كينيا؟ خريج عادي؟ كيف؟ ثم تابع بهدوء فيه شيء من الفخر، وشيء آخر من الامتنان العميق: “هذا الخريج، الذي درس في الجامعة قبل سنوات، عاد اليوم ليردّ لها بعضًا من فضلها، بعد أن أصبح رجل أعمال ناجحًا على مستوى القارة.” هناك، أمام واجهة المبنى الزجاجية، وبينما تتسرب أشعة الشمس من بين سعف النخيل، شعرنا أننا لسنا أمام مجرد مبنًى جديد، بل أمام قصة خالدة، تصلح أن تُروى للأجيال القادمة في أول دروسهم الجامعية عن الوفاء. قال المرافق: “لقد جاء بنفسه، لم يرسل مندوبًا ولا خطابًا رسميًا. وقف هنا، حيث تقفون الآن، وقال: “هذه الجامعة منحتني بداية الحياة، واليوم جئت لأمنحها ما أستطيع. هذا أقلّ ما أفعله.”
يا له من مشهد، ويا لها من روح. لم يكن المبنى مجرد طابقين أو ثلاثة، ولا قاعات حديثة وأجهزة عرض وشبكات إنترنت فائقة السرعة، بل كان ترجمة ملموسة لأثر التعليم حين يكون عميقًا، صادقًا، مغيرًا لمسار الإنسان لا لسنوات فحسب، بل لعقود. إنه تجسيد لمعنى أن يغرس التعليم شجرة، فيأتي الطالب لاحقًا ليسقيها بنفسه، ويزرع إلى جانبها غابة من الحلم. من كان يتوقع أن أحد أولئك الطلاب، الذي ربما جلس في المقاعد الخلفية يومًا ما، وكتب ملاحظاته بقلم مهترئ، سيعود يومًا بهذا الزخم من العطاء؟ من كان يظن أن لحظة تلقي العلم تتحول إلى دين في القلب، لا تهدأ النفس إلا حين ترده؟ كنا نحدق في جدران المبنى وكأنها تتكلم، وكأنها تحكي رحلته منذ أن وضع أول قدم له هنا، ذلك الشاب القادم من كينيا، مثقلًا بحلمه، وربما بهموم الفقر وتحديات الغربة. لكنه أتى، وثابر، وتخرج، ثم خرج إلى عالم الأعمال فنجح. لكنه لم يكتفِ بالنجاح. لم يغلق خلفه الباب، بل فتح نافذة جديدة لعشرات غيره.
مبنى التعليم عن بعد الذي أمامنا اليوم هو ثمرة نادرة للعرفان، بل هو أحد تلك الأمثلة التي تُثبت أن أثر الجامعة لا يُقاس بعدد الخريجين فحسب، بل بمدى قدرتها على أن تزرع فيهم قيمًا تصمد أمام اختبارات الحياة: الوفاء، المسؤولية، الانتماء الحقيقي، والإحساس العميق بالجذور. لقد حمل ذلك الخريجُ معه رسالة سامية، أن التغيير لا ينتظر المليارات، وأن أكبر العطاءات لا تأتي دائمًا من المؤسسات العملاقة، بل من أولئك الذين ذاقوا طعم الحاجة، وفهموا قيمة الفرصة، وأقسموا في قلوبهم ألا ينسوا اليد التي امتدت إليهم ذات يوم. حين تنظر إلى هذا المبنى، لا ترى فقط طوبًا وأسمنتًا وزجاجًا، بل ترى شيئًا أبعد من ذلك: ترى وعدًا صادقًا من خريج لجامعته، ترى علاقة لا تنتهي مع آخر يوم دراسي، بل تبدأ من هناك. لم نعد ننظر إلى المبنى كمنشأة تعليمية فقط، بل كرمزٍ حيّ، كنقشٍ خالد على جبين الزمن الجامعي، بأن كل طالب اليوم، قد يكون راعي النهضة غدًا، إن زُرعت فيه القيم، وإن سُقِي طموحه بالإيمان، وإن شُحِذ عقله بالأمل.
إننا، ومن قلب هذه القصة، نُدرك أن الجامعات العظيمة لا تُبنى فقط بالمناهج أو بالجدران، بل تُبنى بروح الذين مرّوا منها، وبحجم الأثر الذي تتركه فيهم، ومدى وفائهم لها حين يقفون على قممهم.وها هو اليوم أحدهم يردّ الجميل، لا بخطاب شكر، ولا بلوحة تذكارية، بل بمبنى كامل، فتح بواباته لطلاب لم يلتقِهم، لكنه آمن أنهم، مثله، يستحقون بداية. كم نحن بحاجة إلى مثل هذه القصص! كم نحن بحاجة إلى أن نُعيد تعريف العلاقة بين الطالب وجامعته، لتكون أعمق من تحصيل شهادة، وأوسع من اجتياز سنوات دراسية. نحتاج إلى أن نُعلّم طلابنا أن الجامعة لا تنتهي لحظة التخرج، بل تبدأ معهم حياةً جديدة من الوفاء والبناء والعطاء. وها نحن اليوم، في حضرة هذا المبنى، وفي حضرة هذا الموقف، نشهد ولادة قصة خالدة… قصة شابٍ لم ينسَ، فردّ الجميل على طريقته، ليُثبت لنا جميعًا أن الامتنان، حين يتحول إلى فعل، يُصبح مبنًى من طموح.