|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي

في تلك الصورة التي لم تُلتقط بعدسة كاميرا فحسب، بل التُقطت بعدسة الزمن والحنين، يقف رجل نحيل الجسد، عظيم الظلال، تنعكس النظارات الشمسية على ملامحه المضيئة بالرضا، كأنها مرآة لقلبه، لا لعينيه. ذاك هو الجد إسماعيل غريب، الذي لم يكن مجرّد رجل من زمنٍ مضى، بل شجرة أصلٍ لا تزال تنبت أوراقها في كل حفيد، وتثمر مع كل ضحكة من ضحكات أحفاده.
ولأن الصورة أبلغ من الحكاية، يكفي أن تنظر إلى هذا الجمع الطيب من الأبناء والأحفاد حوله، حتى تدرك أن الحبّ يمكن أن يكون جاذبية أقوى من الجاذبية الأرضية، تلك التي جمعتهم تحت شمس واحدة، لا لينصهروا فيها، بل ليتقووا ببعضهم، ويضيئوا بها دربًا من الوفاء. الجدّ، كما يصفه ابن خلدون، هو الجذر الأول في “العصبية” التي تقوم عليها الأمم، والعصبية في معناها النقيّ هي وحدة الروح والهدف، والدم والهمّ. فإذا كان ابن خلدون قد قرأ في الجدّ نواة الدولة، فإننا نقرأ فيه نواة الأسرة، الدولة المصغّرة، المدرسة الأولى، الوطن الصغير الذي يُغرس فينا من الطفولة. أما ابن القيّم، فقد قال إنّ “القلوب جبلت على حب من أحسن إليها”، ولو قُدّر له أن يرى جدًّا كإسماعيل غريب، لما اكتفى بالقول، بل دوّن مجلّدًا عن الحُسن واللُطف الذي يُورّثه الجدّ في أولاده، كأنّ في لمسته شفاء، وفي ضحكته دعاء، وفي سكوته حكمة تملأ المكان.
وما أجمل أن يكون اسم الجدة “وفاء”… كأنّ الأقدار أرادت أن تُسمّي النصف الآخر من الوطن، ليكتمل البيت بين “إسماعيل” الذي يحمل معنى الطاعة والإذعان للحق، و”وفاء” التي تعني البقاء على العهد. هو الوطن حين يُرزق بالذاكرة، وهي الذاكرة حين تُرزق بالحياة. في عالم تتسارع فيه الوجوه، وتذوب فيه المعاني، ثمّة من يحفظون شكل الأيام. شفاء، زاهد، وأسماء، لم يكونوا فقط أبناء إسماعيل، بل أبناء رُقيّ المعنى؛ شفاءٌ لكل تعب، وزهدٌ في زيف الدنيا، وأسماءٌ تحمل كلّ نداء جميل. هل كان يدرك الجدّ يومًا، حين حمل أبناءه على كتفيه في بدايات الطريق، أنهم سيحملونه على القلوب لاحقًا؟ هل تخيّل أن ملامحه ستنعكس يومًا في وجوه صغارٍ يركضون نحوه، لا ليأخذوا منه المال أو الهدايا، بل ليأخذوا من حضنه يقينًا، ومن صوته بركة؟
في وجهه الحنطيّ، نُسجت خيوط الزمن بخيوط الحكمة. وفي نظراته التي تخترق صخب الصورة، ثمة قصة لم تُرو بعد، لكنها تُقرأ في الأعين التي تحيط به، وفي الأذرع التي تحتضنه، كأنهم جميعًا يتناوبون في قول الحقيقة ذاتها: “أنت وطننا، وكلنا خرائط لهذا الوطن.” ما الجدّ إلا وطنٌ صغير، نحبّه بلا دستور، وننتمي إليه بلا تأشيرة، نحتمي به من تعب العالم، ونرجع إليه حين نضيع. وما الأسرة إلا دولة ذات سيادة، لها رئيس اسمه “الحبّ”، ودستور اسمه “الرحم”، وعلمٌ يُرفع في المناسبات الكبيرة اسمه: اللقاء.
انظر إلى أولئك الأطفال، تظنّهم لا يدركون قيمة من يقف بينهم، لكنهم يعلمون في أعماقهم أنه حين يغيب الجدّ، يُصبح العيد بلا طعم، ويغدو اليوم مجرّد وقت. الجدّ لا يُقاس بعمره، بل بظلاله. ببصماته في النفوس، لا ببصماته على الورق. بأحاديثه التي تُروى بعد رحيله أكثر مما تُروى في حضوره. هو العابر الذي لا يرحل. والراحل الذي لا يُنسى. إنّ أعظم استثمار عرفته البشرية هو الجدّ. لا تُبنى البيوت بالحجارة، بل تُبنى بالجدّ الذي يصمت في الوقت المناسب، ويتكلم حين يتعثر الحفيد، ويبتسم حين لا أحد يبتسم، ويغفر حين يقسو العالم.
وهنا، في هذا الجمع الأسري الجميل، لا تبدو الصورة مجرّد لحظة عائلية، بل وثيقة إنسانية، تروي قصة وطنٍ لا يُختزل في علمٍ أو نشيد، بل يُختصر في رجل اسمه إسماعيل، وامرأة اسمها وفاء، وأبناء حفرت أسماؤهم في الذاكرة: شفاء وزاهد وأسماء. أما الأحفاد، فهم فصول الرواية القادمة، رسائل تُبعث باسم الجدّ إلى المستقبل، ليظلّ حاضراً، ما دام أحدهم يروي قصّته.
هكذا تكتب الأوطان سيرتها.
وهكذا يُحفظ الجدّ في الذاكرة: ببهجته، بوقاره، بلُطفه، وبابتسامةٍ تشبه الفجر. وإن كانت الصورة تُؤطّر بالحدود، فإن الأرواح لا تُؤطّر…
وكل من في هذه الصورة، هم في الحقيقة … داخل قلب الجدّ.
