|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي

يا أبي… حين تتساقط الأيام من بين أيدينا كأوراق خريف، يبقى لك في كل موسم ذكرى، وفي كل يوم حضور، وفي كل عيد ورقة… ورقة كتبتها بيدك، فحملت ملامحك، ورائحتك، وصوتك. كلما نظرت إلى ورقتك الزرقاء، شعرت أنك لم ترحل، بل جلست جانبًا قليلًا، تنتظرنا لنكمل معك “الله أكبر”. خطّك كما عهدته: متواضعٌ لا يتكلّف، خاشعٌ لا يصطنع، كأنما كنت تكتب لا بالقلم، بل باليقين.
هذه الورقة ليست ورقة
هي عُمْرٌ مكتوب، هي آخر ما تبقّى من نبضك في الدنيا، وأول ما يُضيء قلبي في العيد. أقرأ فيها: “الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد” فأسمع فيها صوتك، ونبضك، ودموعك، وكأنّك تهمس لي: “كَبّرْ يا ولدي… فإن في التكبير عزاء، وفي الذكر حياة، وفي الحمد راحةٌ ما بعدها تعب.”
كأنك تكتبني
حين خططت تلك التكبيرات، لم تكن تعلم أنك تكتب على الورقة آخر ما سأتعلّمه منك… أن أُكبّر، لا لأن العيد قد جاء، بل لأن الله أكبر من الحزن، وأكبر من الفقد، وأكبر من الغياب. كلما اشتدت عليّ الدنيا، عدتُ إلى تكبيرك. وكلما أظلم قلبي، فتحت ورقتك، لأستضيء بها. كأنك لم تكتب لأجلك، بل لأجلي. كأنك لم تترك سطورًا، بل تركت طريقًا أسير فيه.
كيف للغياب أن يملأ المكان؟
غبتَ يا أبي، لكنك لم ترحل. ما زالت مواضع قدميك في المسجد تشهد، وما زال العيد يبدأ من صوتك وإن صمت. أسمعك تقول لي: “كن خفيف الروح، ثقيل القيمة، واسع الدعاء، رقيق القلب… كما كنتُ أحاول أن أكون.” علمتني أن البر لا يحتاج مناسبة، وأن الذكر لا يُؤجّل، وأن التكبير لا يُقال، بل يُعاش. تركت لي وصيتك من غير وصية… ورقةٌ بخطك كانت أعظم من ألف كتاب.
عيدنا بك… وإن غبت
في كل عيد، نُكبر، لكن بقلوب نصفها في السماء. أُسمع أولادي التكبير، وأقول لهم: “هكذا كان جدّكم يُكبر… بهدوء، بخشوع، وكأن الله يسمعه وحده.” أعلّق ورقتك في صدر البيت، لا لأتزين بها، بل لأتذكّر من أنا. أنا ابنك… ابن رجل كتب “الله أكبر” بقلبه، وتركها في الأرض أمانة، أن لا نُكبّر يومًا إلا وندعو له.
دعاء لا ينتهي
اللهم… ارحم أبي، كما علّمني أن أُكبّر، وارحم أمي، كما علّمتني أن أُحب، واجعل خطّه نورًا في قبره، كما كان نورًا في بيتنا. اللهم اجعلها صدقة جارية له، واجعلنا له من الباقيات الصالحات، واجمعنا به وبكل من نحب في الفردوس الأعلى، لا فاقدين ولا مفقودين.
وفي الختام
يا أبي… لقد رحلت، لكن ورقتك بقيت، وصوتك بقي، ودعاؤك لا يزال يملأ جدران البيت. سنظل نُكبّر، لا لأن العيد جاء، بل لأنك علمتنا أن الله أكبر من كل شيء… حتى من الغياب. رحمك الله، ورضي عنك، وجعل الفردوس دارك ومقامك. وإن نسيناك يومًا، فالحبر الذي كتبتَ به لن ينسى، والورقة التي خلّفتها ستشهد لك… أنك كنت تُكبر، وما زلت.
