غداء السابعة الذي صار رواية

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

محمد تهامي

السبت 19 سبتمبر 2025، عند تمام الساعة السابعة حين ينساب الليل على استحياءٍ في نيروبي، وحين تتثاقل اللحظة بين التعب والشوق، جاء الإيعاز لمشهد لا يُنسى: هاجر تتقدّم، وخلفها طارق يساندها، كأنهما يقدّمان للعالم لا مجرد وجبة غداء، بل لوحة إنسانية كاملة تُغني عن الكتب والتقارير. كان الغداء مائدة عامرة، لكنها لم تكن مجرد أطباق متراصة على طاولة خشبية؛ كانت لغة جديدة تكتبها الأيدي على صحن الحياة.

دفء البداية

بدأت المائدة بـ شوربة اللحم بالليمون. رائحة تنفذ إلى القلب قبل أن تمس الأنف، كأنّها رسالة تقول: “الدفء أول العطاء”. هنا يستحضر المرء كلمات الرافعي: “إن في الطعام معنى من معاني المحبة، لا يلتذ به الجسد وحده، بل تنعقد حوله الأرواح في ميثاقٍ صامت.”
لقد كانت الشوربة أوّل عزفٍ على أوتار الاجتماع، جمعت الحاضرين على ملعقة صغيرة لكنها كبيرة في معناها، جمعتهم على دفءٍ لم يخلقه المطبخ وحده، بل خلقته النية.

بستان خضروات

ثم كان طبق السلطة، لوحةٌ خضراء متشابكة الألوان، أشبه ببستان مصغّر قُطفت ثماره لتوضع بين يدي الفريق. لم يكن مجرد خيار وطماطم وخس، بل كان بستانًا يُذكّرهم بأنّ الأرض –مهما بعدوا عنها– تظلّ تمدّهم بأمها وكرمها.
هنا يحضر المسيري قائلًا: “الطعام في جوهره هوية، وحين نتقاسمه فإننا نتقاسم ذواتنا، نصير جزءًا من الآخر.” وهكذا صار طبق السلطة درسًا في التآلف، كأنّ الخضروات جاءت لتقول: إنّ التنوع لا يُفسد الطعم، بل يُثريه.

هندسة الحب

أمّا صينية البطاطس ذات القطع الهندسية، فكانت درسًا آخر: أن في النظام جمالًا، وفي الترتيب رسالة، وفي الهندسة حبًّا مضمَرًا. كل قطعة مربعة أو مثلثة أو دائرية لم تكن محض صدفة، بل كانت علامة على أنّ يد هاجر رتبت الفوضى إلى جمال، وأنّ طارق كان وراءها يعاونها، ليُثبت أن العطاء شراكة لا بطولة فردية. قال مصطفى السباعي: “الحب في جوهره ترتيب، يُنظم الفوضى في قلوبنا، ويجعل من العادي استثناءً.” وهكذا صار طبق البطاطس بيانًا عن معنى المشاركة والتنسيق، لا مجرد طعام.

ذاكرة البيوت

ثم جاءت صينية المكرونة بالبشاميل، بما تحمل من دفء البيوت القديمة، ومن ذكريات أمهاتٍ قدمنها يومًا في مناسبات وأعياد. كانت الطبق الأكثر ألفة، وكأنها جسرٌ أعاد الفريق إلى طفولته في لحظة واحدة. لقد أيقظت المكرونة ما قاله الرافعي: “كل طعام مطبوخ في بيتٍ هو سطرٌ في كتاب الأسرة، يُقرأ بالحنين.”كانت الصينية أشبه بدفتر ذكريات، تعيد للغربة معنى الوطن، وتعيد للتعب معنى الراحة.

جذور الأرض

ثم جاء طاجن البامية باللحم، كثيف المذاق، غنيّ النكهة، كأنه قطعة من الأرض نفسها. فالبامية ليست فقط نباتًا، بل رمزًا للتجذر والبساطة، للارتباط بالتراب والماء والعرق.
لقد ذكّرت الحاضرين بما قاله المسيري: “الغذاء هو أحد أكثر الروابط وثوقًا بين الإنسان والأرض، فكل لقمة هي قبضة تراب تحولت حياة.” كان الطاجن درسًا في أن العمل الخيري أيضًا يجب أن يكون متجذرًا، متصلًا بالأرض، نابضًا بالناس لا معزولًا عنهم.

نكهة المفاجأة

وما بين الأطباق، ظهر الباذنجان المخلل، بطعمه الحادّ، كأنه صرخة صغيرة وسط سيمفونية هادئة. لكنه صرخة لم تُفسد المذاق، بل أضافت إليه بعدًا جديدًا. الباذنجان كان بمثابة تذكيرٍ للجميع أن الحياة ليست كلها حلوة، وأنّ المرارة أيضًا جزء من جمال الصورة. هنا يطلّ السباعي قائلًا: “لا تكتمل الحياة بغير ما يؤلم، كما لا يكتمل الطعام بغير ما يُهيج الذائقة.” لقد كان الباذنجان المخلل حارسًا للتوازن، معلّمًا صغيرًا على المائدة.

قيمة الصبر

وأخيرًا، وُضع الخبز الجاف على الطاولة. ربما رآه البعض عاديًا، لكنّه كان أعظم الأطباق معنى. لقد قال بصمته: “ليس كل ما يغذي هو الطراوة، أحيانًا الجفاف يُربّي الصبر.”
في الخبز الجاف يتجلى تاريخ الشعوب، حين كانت الأرغفة تُخبز في الأفران الطينية، وتُؤكل بشكر لا بشكوى. قال الرافعي: “رغيف الخبز هو أصدق وثيقة في حياة الإنسان، يوقّعها كل يوم بعرقه.” لقد كان الخبز هنا خاتمة حكيمة، يُذكّرهم أن العطاء ليس في الفخامة، بل في البساطة الممتزجة بالرضا

ما وراء المائدة

ما إن اكتملت المائدة حتى شعر الجميع أنهم أمام لوحة، لا مجرد وجبة. لقد اجتمعت العناصر لتكتب سردية جديدة:
• شوربة تعطي الدفء.
• سلطة ترسم التنوع.
• بطاطس تكتب النظام.
• مكرونة توقظ الذكريات.
• بامية تجذر الأرض.
• باذنجان يوازن المفاجآت.
• خبز يُعلّم الصبر.

وبين كل طبقٍ وآخر، كان صوت هاجر ولمسة طارق ينسجان خيط المحبة، ليغدو الغداء مدرسة كاملة، بل رواية تُحكى للأجيال، فاللهم بارك في هاجر التي جعلت من الطعام رسالة حب، وفي طارق الذي جعل من المساندة ركيزة عطاء، وفي كل يد امتدت على تلك المائدة فحملت بركة وامتنانًا.
اللهم اجعل مائدتهم هذه شاهدًا لهم لا عليهم، واملأ قلوبهم سكينةً كما ملأت صحونهم خيرات، واجعل لقاءاتهم على طعام الدنيا مدخلًا للقاء أوسع على موائد الجنة حيث لا جوع ولا تعب ولا فناء.

وختامًا، لقد كان غداء السابعة حدثًا لم يُكتب له أن يكون مجرد وجبة. كان رواية إنسانية، لوحة إبداعية، دروسًا في الحب والتضامن والتجذّر. كان غداءً لا يستطيع أحد تدوينه، إلا إذا امتلك قلبًا يرى ما وراء الطاولة، وعينًا تقرأ الطعام كما يُقرأ كتاب، وروحًا تدرك أن كل طبقٍ يحمل رسالة، وأن المائدة حين تُقام على النية الصافية، تصبح بستانًا من المعاني، وسطرًا خالدًا في كتاب الأيام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top