غزة… المدينة التي لم تُهزم حتى حين تسقط

Getting your Trinity Audio player ready...

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

ليست غزة مدينة كغيرها من المدن. إنها النبض الذي يفضح سكون العالم، والحقيقة التي تجرّد الزيف من ورق تغليفه. في كل مرة تشتعل فيها نار الموت على ترابها، لا تُطفأ النار، بل تُعيد صياغة المعنى… معنى الصمود، والكرامة، والإنسانية المجردة من كل رتوش الخطاب الدبلوماسي العقيم.

غزة ليست ضحية، بل أيقونة. هي الجرح الذي لا يندمل لأن النزف فيه صار هو الحياة ذاتها، وهي الحياة التي تعلّمنا أن الكمال ليس في أن تكون كاملاً، بل في أن تُقاوم كل نقصك بكرامة لا تنحني. غزة مدينة تُحاصر لا بالحديد والنار فقط، بل بوجوهنا الصامتة، وشاشاتنا اللامبالية، وخيباتنا اليومية التي نكتشف فجأة كم هي تافهة حين نقارنها بطفلة تحت الأنقاض تبحث عن أمها بصوت لا تسمعه إلا الأرض.

في غزة، لا يموت الناس كما يموتون في سائر المدن، بل يتحول الموت إلى طقس من طقوس العظمة. الجسد لا يفقد روحه فقط، بل يتركها محلقة فوق الركام لتعلّم العابرين أن ثمة حياةً أعظم من الحياة… حياة تحفظ للكرامة شكلها النهائي، وتمنح للموت قدسية لا تعرفها الحروب الحديثة.

منذ متى أصبحت البيوت تكتب الشعر؟ ومنذ متى صار الغبار لغة لها قاموسها؟ في غزة، تُسجّل الحيطان ما لم تُسجله القصائد. على الجدران ثمة أسماء لأطفال لن يدخلوا المدارس بعد اليوم، وثمة صور لأمهات لم تُكمل وصايا العشاء الأخير. لكن، بالرغم من كل هذا الفقد، هناك نَفَس يتكرر من بين الأنقاض، يعلن أن المدينة لا تزال حيّة، لا تزال تقاتل، لا تزال تحب.

غزة لا تصرخ، فهي أرفع من الصراخ. إنها تكتفي بالنظر إليك، وأنت تعلم أن نظرتها وحدها تُدين كل الصمت العربي، وكل الخذلان الأممي، وكل تلك المؤتمرات الباردة التي لا تملك من حرارة النبض شيئًا.

إن العالم، وهو يراقب غزة تحترق، ينسى أو يتناسى أن هذه المدينة الصغيرة تُعيد صياغة مشاعر البشرية جمعاء. من لم يشعر بشيء أمام صورة طفل يُنتشل من تحت الركام، هو ليس حيًا. ومن لم تُبكِه ابتسامة شهيد صغير يرتدي كفنه الأبيض كأنه لباس عيد، فليُراجع قلبه، فربما صار حجرًا دون أن يدري.

في غزة، تتعلم البشرية دروسها الكبرى: أن لا شيء يستحق أن يُعاش دون كرامة، وأن الطفل يمكن أن يكون بطلًا قبل أن يتعلم الهجاء، وأن الخبز ليس أثمن من الحرية، وأن الموت قد يكون أرحم من العيش المهان.

الغزّيون لا يكتبون بياناتهم. لا يمتلكون الوقت ولا الورق ولا الكهرباء. لكنهم يرسلون للعالم أعظم ما يمكن أن يُكتب: فعل البقاء. فعل الوقوف من جديد. فعل القول “لن نغادر”، حتى ولو لم تبقَ إلا حيطان تتكئ على بعضها. لا يبحثون عن المجد، بل عن الهواء. لا يطلبون شيئًا من أحد، سوى أن يُتركوا ليعيشوا كما يليق بالبشر.

قد تسأل: أين العالم؟ لماذا لا يتحرك؟ الجواب بسيط وموجع: غزة لا تُناسب مقاييس السوق الإعلامي. لا تملك رواية مُربحة، أو إعلانًا جذابًا، أو سلعًا للمزايدة. غزة تمتلك فقط الحقيقة، والحقيقة ليست سلعة رائجة في زمنٍ يفضل الأكاذيب ذات الإخراج الجيد.

لكن، حتى لو صمت العالم كله، غزة لا تنتظر أحدًا. هي تمشي بثقة على حد السكين، وتكتب بدمها ما يعجز الحبر عن قوله. ليس لها حليف سوى الله، ولا ظهر سوى أهلها، ولا ضوء سوى يقينها بأن ما يُزرع في الألم، يحصده التاريخ عزةً وخلودًا.

أكتب هذا المقال، لا بصفتي كاتبًا، بل بصفتي إنسانًا تشرّب عجزه حد الغصة، ووقف طويلاً أمام الشاشة خائفًا من أن يعتاد مشاهد الدم فلا يعود الدم يُحرك فيه شيئًا. أكتبه لأن غزة لا تحتاج إلى كلمات، بل إلى ضمائر، وإن لم نستطع أن نحمل عنها الألم، فلا أقل من أن نحمله معها، في وعينا، في اختياراتنا، في تربيتنا لأبنائنا، في صلاتنا.

لأن غزة، ببساطة، لا تموت.
لأنها مدينة إذا سقطت، سقط معها ما تبقى من شرف العالم.
ولأنها، حين تنهض، تذكّرنا كيف تكون الحياة جديرة بالحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top