حين نَضجت المودّة… وقُدّمت على صينية بخاري

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في مساءٍ نيروبيٍّ دافئ من مساءات الثلاثاء، في الثاني والعشرين من أبريل عام 2025، لم يكن هناك ضوءٌ في النوافذ أبهى من الضوء المنبعث من المائدة. كانت تلك المائدة — التي أعدّتها هاجر عقب يومٍ طويل من الجهد والعمل المتواصل — بمثابة لوحة منزلية، عائلية، إنسانية، لا تُباهي موائد السلاطين، ولا تستعرض نفسها على صحون البذخ، لكنها تُقيم مأدبة خالدة في ذاكرة القلوب.

في ركن الصالة الذي التفّت حوله الأرواح قبل الكراسي، استقرّت الصينية على السفرة، واستقرّت معها مشاعر من الراحة، والامتنان، والانتماء. صينية البخاري المهيبة، بصفوف الأرز المفلفل، وتلال اللحم الضاني الطري، الذي بدا وكأنه استوى بالدعاء لا بالنار. تلك اللحظة التي قلب فيها طارق الأرز من القدر على الصينية، لم تكن مجرّد حركة طبخ، بل كانت استعراضًا لخبرة لا تشترى، ولعناية رجل يعرف أن في المائدة احترامًا للضيف، وتكريمًا للنَفَس، وحبًا لا يحتاج أن يُقال.
هاجر، شريكته في كل شيء، كانت تقف إلى جواره، لا لتعينه فحسب، بل لتُكمّل ملامح المشهد بلمستها الأنثوية، الدقيقة، التي تشبه مهارة الخياطة اليدوية في زمن الغزل الميكانيكي. أضافت للمائدة من رقتها أكثر مما أضافت من الطعام. وضعت الصحون بحنو، وضبطت الترتيب كأنها تُنسّق قصيدة، وأخرجت من ثلاجتها طبق الزبادي بالخيار، وطبق الساحوق اليمني الطعم، حين تذوقته، أعادني إلى يد أمٍّ راحلة، كانت تصنعه بجانب السمك المشوي في بيتنا الأول، دون أن تعلم أنها تُطوّب في الذاكرة للخلود، تلك الذكرى لم تكن وليدة الطعم وحده، بل من روح المائدة التي غلبت عليها العناية، البساطة، والسخاء… وكأن من أعدّها يعرف أن الطعام لا يملأ المعدة وحدها، بل يملأ القلب إن كان بطعم الذكرى.

وعقب المائدة، وفي إيقاع هادئ لا يُخطئ توقيته إلا الغريب، بدأت سيمفونية الفاكهة. أناناس مقطّع بحواف هندسية كأنها صُنعت بمبضع جراحٍ محترف، ويوسفي منزوع البذر، تفاحٌ مرصوص بعناية على شكل هلالٍ يفصل بين طيفي الموز الناضج. وكان نخيل التمر هو الختام الذي لا ينافسه مسك: تمر سكّري مفتّل، وآخر من نوع المجدول بليونةٍ لا تحتاج للشرح، وجزائري التكوين برائحةٍ أشبه ما تكون بصحراء غنية بالسكينة. كل هذا، تزامن مع صينية تلمع فوقها فناجين القهوة العربية، تُسقى رويدًا رويدًا، كأنها تصبّ من يد جارية في مجلس هارون الرشيد. لكن الفارق هنا، أن المجلس كان مجلس المحبة، والمُلك فيه ليس لأحد، بل لكل من حضر. لا رئيس بينهم، ولا مُضيف، بل كان الجميع تحت سقف المودّة التي لا تعرف التكلّف. كانت لحظة من تلك اللحظات التي يخجل التاريخ أن لا يكتبها، والتي قال عنها العقاد يومًا: “في البيوت التي يُعدّ فيها الطعام بالمحبة، يُغفر ما عدا ذلك من النقص”. لقد غُفرت تعب النهار، وقساوة المهمات، وانشغالات العالم الخارجي في حضرة هذه المائدة التي لم تُعد للزهو، بل للحب.

هذه هي القيادة الخفية التي تتجلى في أدق تفاصيل الحياة. طارق وهاجر لم يُلقيا خطابات، ولم يعتلوا منابر، لكنهما أدارا المشهد كما تُدار الدول: بالنية، والتوزان، والروح. قال المسيري ذات مرة إن: “المعنى لا يكون في الحدث ذاته، بل في السياق الذي يُروى فيه، وفي الإنسان الذي يشهده”. ولو شهد أحد تلك المائدة، لما احتاج إلى مقالات في فنون الضيافة، ولا إلى شهادات في الإدارة المنزلية، فقد كانت الرسالة مكتملة: العطاء موقف، والرعاية موهبة، والاحترام يبدأ من المطبخ. وليس الأمر كله عن الطعام، بل عن النية التي طُبخ بها الطعام. كانت المائدة برمّتها تذكرةَ عبورٍ إلى عالمٍ أبسط، أعمق، وأصدق، تذكّرنا أن في بيتٍ صغير بنيروبي، يمكن أن تُصنع المعجزة، إذا اجتمع قلبان يعرفان أن السكينة لا تُشترى، بل تُطهى على نارٍ هادئة من المودّة، وتُقدّم على صينية فيها من ضوء القلب أكثر مما فيها من المكوّنات.

وهكذا… حين جمعنا طارق وهاجر حول مائدتهما، لم يجمعانا على الطعام فقط، بل على حكاية. حكاية لا تُدوَّن في كتب الطبخ، بل تُحكى من فمٍ لفم، ومن قلبٍ لقلب، ومن جيلٍ لجيل، كدرس في الإنسانية، لا في الضيافة. لأنه في النهاية، ما الطهي إلا فنّ تحويل الحياة إلى طَعم… والطعام إلى معنى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top