حين تلتقي الإرادات…نواكشوط تُعيد رسم معادلة الشراكة التنموية

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في قاعة بسيطة بالعاصمة نواكشوط، لكنها غنية بالمعاني والتطلعات، الإثنين 14 أبريل 2025، التأم لقاء لم يكن عابرًا ولا عاديًا. أربع جهات تمثيلية جاءت من مشارب متباعدة، لكن بأحلام قريبة، جلسوا على الطاولة المستديرة لا ليبادلوا الخطابات الرسمية، بل ليغوصوا في سؤال كبير: كيف نحوّل الشراكة إلى قيمة استراتيجية حقيقية؟ لا بوصفها شعارًا يُعلّق على الجدران، بل كجسر تتقاطع فوقه المسؤولية والفعالية والرؤية المجتمعية المتوازنة.

في مقدمة الجلسة، لم تكن الكلمات تنساب كتقارير روتينية، بل كانت تعبيرًا عن قلق وجودي مشترك، عن واقع مشاريع تنموية تنهض ثم تتعثر، وأخرى تولد قبل أوانها فتخبو، وثالثة لا تجد بين الجهات من يحتضنها بحب أو رؤية، فتضيع بين أوراق الدعم، وتناقض التوقعات، وتهافت التخطيط، ألسنا بحاجة إلى وعي جديد بالشراكة؟ سأل أحد الحاضرين بنبرة تنضح بمرارة التجربة، ألسنا نعيد إنتاج نفس القوالب القديمة؟ جهة تُموّل، وأخرى تنفذ، وثالثة تُقيّم، ولا أحد يعيد النظر في جوهر ما نقوم به؟ كان الصمت الذي تلا السؤال أبلغ من الجواب، إذ كانت الحقيقة واضحة كالشمس: ما نحتاجه ليس مجرد تفاهمات عابرة أو محاضر توقع وتنشر، بل إعادة تأسيس لمفهوم “الشراكة” على أسس إنسانية واستراتيجية ومؤسسية متجددة.

عند هذه النقطة، انفتح النقاش على نموذج حيّ تم طرحه كمصدر إلهام: “المجمع التنموي بشرق أفريقيا” لم يكن الحديث عنه استعراضًا للنجاحات، بل تفكيكًا عميقًا لكيفية تحوّله من فكرة إلى منظومة مستدامة، مؤسسة جمعت بين التعليم والصحة والتمكين الاقتصادي والرعاية الاجتماعية في قالب واحد، تحت رؤية متكاملة لمفهوم “الكرامة التنموية”، لا بوصفها منحة تُعطى، بل كحق يُبنى بالتدرّج، والتكامل، والإرادة، “السر ليس في كثرة التمويل”، هكذا قيل في الورشة. “بل في نضج التصور، وصدق العلاقة بين الأطراف، ووضوح التوزيع للمسؤوليات، والأهم: في امتلاك المشروع لروحه الأخلاقية”.

في لحظة من لحظات النقاش، استُحضر قول مالك بن نبي: ” إن المشكلة ليست في غياب الموارد، بل في غياب الإنسان القادر على إدارة الموارد.” كانت الجملة تشبه الصرخة، وكأنها تصف حال بعض المشاريع التي نُفذت بلا روح، فماتت واقفة، ثم جاء دور الحديث عن القيم. قيل كثير عن الشفافية، لكن أحد الحاضرين قال بنبرة فكرية صريحة: ما لم نُدرج “النية المشتركة” ضمن منظومة الشراكة، فكل ما نبنيه قابل للانهيار. الشراكة ليست وثيقة، بل ثقافة. ليست تنسيقًا ظرفيًا، بل تقاطعًا مستدامًا للرؤى. وأي شراكة لا تُغذى بالقيم تفقد بوصلتها مع أول اختبار.

في الورشة، كانت الأصوات متداخلة، لكن السياق العام أفرز توافقًا نادرًا: لا بد من مأسسة الشراكة، أي جعلها جزءًا من النظام المؤسسي، لها آلياتها، وتقييمها، ومرونتها، واستقلاليتها، ومؤشراتها النوعية، لا الكمية فحسب. ماذا لو أن كل مشروع خيري وطني أُلزم بتقديم خارطة شراكة من لحظة ولادته؟ من سيموله؟ من سينفذه؟ من سيُتابعه؟ من سيحاسب؟ من سيقيس الأثر بعد عام أو اثنين؟ كانت هذه الأسئلة محور الجلسة الثانية، حيث بدأت التصورات تتحول إلى خطوط عملية، ولأن النقد البنّاء لا يكتمل دون نظرٍ في الذات، عاد أحد المشاركين ليقول: علينا كمنظمات مجتمع مدني أن نتحرر من عقدة التبعية، وأن نبني علاقات قائمة على الندية الأخلاقية والمعرفية، لسنا مجرّد منفذين، بل شركاء في التفكير، في التقويم، وفي التصميم. كانت تلك لحظة اعتراف، لكنها أيضًا لحظة وعي.

أما ممثل الجهة الرسمية، فقد لخّص الموقف بجملة لافتة: الشراكة التي لا تُنتج أثرًا، ليست شراكة، بل تبادل أدوار على خشبة مسرح. وهكذا، اتضح أن الجميع يبحث عن معنى، لا عن مجرّد حضور، في نهاية الورشة، لم تُرفع التوصيات بشكل تقليدي. بل اتُفق على إعداد “وثيقة ميثاق شراكة”، تنص على القيم، والمبادئ، والمسؤوليات المتبادلة، ومؤشرات النجاح، وآليات المتابعة، ونماذج ملهمة من بيئات مشابهة. والأهم: أن تُبنى على ثقة متبادلة، لا على حسابات ضيقة.

في وجوه الحاضرين وهم يغادرون، لم تكن هناك نشوة انتصار، بل إدراك أعمق لما هو آت، لأن التغيير الحقيقي لا يُبنى في الورش، بل ينطلق منها، لا يُصاغ في الجمل، بل في الالتزام، ولا يُقاس بكمية الورق، بل بمدى ما زرع في النفوس من مسؤولية. نواكشوط لم تكن في ذلك اليوم مجرد عاصمة سياسية، كانت فضاءً مفتوحًا لحوار بين الضمير والواقع، وبين التجربة والطموح، وبين الرؤية والمسؤولية. ومَن يعلم؟ ربما تكون هذه اللحظة، بكل تواضعها وحرارتها وصدقها، هي الشرارة التي تعيد للشراكة معناها، لا كخيار مؤسسي فقط، بل كقيمة حضارية تُسهم في بناء الإنسان، لا بصفته مستفيدًا، بل شريكًا أصيلاً في إعادة تشكيل المستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top