و حين تكلّمت الجدران… وسكت الضمير

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في عصرٍ تتسابق فيه المشاريع الإنشائية على إسدال أستار التميز، وتُبنى فيه الصروح لا على الإسمنت فحسب، بل على الثقة والمهنية والضمير، جاءت هذه الزيارة، لا كمجرد تفقد هندسي روتيني، بل كفصل من فصول الصدق مع الذات، والتاريخ، والرسالة.

عقب ظهر الثلاثاء ، 22 أبريل 2025، وقفنا أمام إحدى العمائر الوقفية التي طال انتظارها، وشهدت أنامل متعددة، وعهودًا متتابعة من الأمل، ثم الخيبة، هذه الزيارة لم تكن عابرة، بل كأنها محاكمة مهنية صامتة للجدران، للمادة، للوقت، وللأمانة. فبعد أن تم التخارج قبل عام مع المقاول الأول بسبب إخفاقات متكررة، أُسند العمل إلى مقاول ثانٍ، تربطنا به علاقة وطيدة، وثقة متبادلة، ناهيك عن سابقة من الودّ والأمل في أن يكون خير خلف لعمل تعثّر، لكن الواقع، يا للأسف، لم يكن على ما تمنينا.

حين تغيب اليد، ويغيب الضمير

منذ أن تولى المقاول الثاني مهام التنفيذ، ظلت عيننا ترقب، لا تراقب فقط. وتدوّن لا تفتش. وكانت الحصيلة صادمة لمن عرف قيمة الوقت، وحرمة المال الوقفي، وقداسة الأمانة. لوحظ أن المقاول كان غائبًا عن الموقع في أغلب الوقت، وحين يحضر – إن حضر – فحضوره لا يجاوز مراسم المتابعة الشكلية، لا دفءَ المسؤولية ولا حرارة الإشراف. ترك الموقع لمن يمثله، وكان ممثله المهندس، رغم أدبه وتجاوبه، يقدّم مبررات لا ترقى لمستوى المهنية، بل كانت في أحيان كثيرة تُظهر هشاشة في ضبط العمل، وتهاونًا في فهم أهمية المشروع ومكانته.

ولئن كان الغياب الجسدي قد يُعوّض بخطط واضحة أو طاقم ملتزم، فإن ما رأيناه على الأرض لم يكن إلا فوضى مهنية متنكرة في زي الإنجاز. ملاحظات متكررة، لا تحمل أثر يد خبيرة، ولا بصمة مهني متمكن. بل كأن العمالة التي أوكل إليها التنفيذ، لا تعرف شيئًا عن رسالة الوقف، أو لا تعنيها إلا القوالب دون الروح، لقد أُشير للمقاول مرارًا من قِبل الاستشاري الممثل للمالك، ونُبّه مرارًا بلطف أحيانًا، وبحزم أحيانًا، لكن دون أن تترجم هذه الملاحظات إلى فعل يُرضي الضمير قبل أن يُرضي الدفتر.

بين النصيحة والعتاب: ميثاق الأخوّة والمهنية

نحن هنا لا نسجّل موقفًا شخصيًا، ولا نُجرّح في أحد. بل نقولها – كما اعتدنا – بمزيجٍ من الوفاء والمهنية: إن من أحببناه، ومن منحناه ثقتنا، لم يكن على قدر ما تمنينا. فالمودة لا تُعفي من المسؤولية، والرحمة لا تُلغي المحاسبة، وأقرب الناس إلينا هو من نحاسبه أولاً، لأنه أدرى بما نُؤمن به، وأعرف بما ننتظر، نحن لا نقول هذا لنعاتب شخصًا، بل لنوقظ ضميرًا. لنذكر أن الأمانة ليست عقدًا مكتوبًا، بل عهدٌ بينك وبين الله أولاً، وبينك وبين المجتمع الذي ينتظر صدقة جارية على شكل عمارة، تحفظ اليتيم، وتكرم الأرملة، وتبني لمن بعدنا سبيلاً للخير لا ينقطع.

القرار الأخير: جلسة التسليم وحسم الغياب

لذا، وبما أن الوقت لا يرحم، والتأخير طال دون عذر مقنع، تقرر – بعد اتفاق الطرفين – أن يكون يوم الخميس 24 أبريل 2025 موعدًا نهائيًا للتسليم، مع عقد جلسة مساء ذات اليوم لمناقشة تسوية نهائية تنهي الأعمال، وتطوي هذه المرحلة بما لها وما عليها. فلا مزيد من التمديد، ولا تكرار في اللوم، ولا معنى للرجاء في ظل أداء لا يحمل مؤشرات التحسن، إن من علامات النقص ألا نتعلم من الخطأ، ومن علامات الفشل أن نتأخر ونتعلل، ومن سمات القيادة أن تحسم حين لا ينفع الرفق.

العمارة: وثيقة حضارية ومسؤولية شرعية

إن العمل الوقفي ليس جدرانًا ترفع، ولا خطوطًا ترسم، بل هو ميثاقٌ مع التاريخ. كل قصور في التنفيذ هو خيانة لقيمة عظيمة، وكل تهاون في الجودة هو انتقاص من كرامة الفقراء الذين سيأوون إليه، والأرامل الذين سيعيشون من ريعه، والمجتمع الذي يحتمي به، وقد قال العظماء في إدارة المشاريع: “لا يوجد مشروع متعثر، بل إدارة متهاونة، أو مقاول لا يدرك قدسية الوقت”. وكما قال ستيفن كوفي: “الأمانة تعني ألا تخذل نفسك أولاً”. أما المسيري، فقد لخّص جوهر المشروع الحضاري حين قال: “نحن لا نبني مشاريع، بل نبني إنسانًا؛ فإن ضاعت القيم، ضاع البناء وإن علا”.

الختام: لمن يقرأ، لا لمن يُبرر

إن هذا المقال ليس نقدًا بل شهادة. وليس عتابًا بل بيانٌ للحق، وتوثيق لمسار، وتذكير بأن الثقة لا تُمنح لمن خذلها، وأننا سنظل – ما حيينا – نكتب للتاريخ، ونوقظ الضمائر، ونحمل همّ الوقف كما نحمل أسماءنا، لا تهاون، ولا مجاملة، ولا تأخير، فليكن هذا المقال وثيقة تذاكرها أجيال الإنشاءات والمقاولات، وإدارات المشاريع بالمؤسسات الخيرية الرائدة، وليكن محفورًا في أرشيف المهنة كدرسٍ في القيادة والمحاسبة، كتبته الحاجة، وأملته الأمانة، وختمته الثقة التي لا تقبل الخذلان.

نقطة أخيرة: الولاء لا يُقاس بالكلمات، بل بالفعل. والمهنية ليست رتوشًا على هامش عمل، بل روحٌ تسري في تفاصيل الطوب والحجر. أما الثقة، فهي أقدس من أن تُخدش… حتى ولو بحسن نية.
ترقبنا الصدق، فجاءنا الغياب. ورجونا الإنجاز، فجاءنا التأخير. لكننا تعلمنا – مرة أخرى – أن في كل خيبةٍ درس، وفي كل صمتٍ صوت، وفي كل جدارٍ حكاية… إن أُحسن بناؤه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top