|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

ليست القيادة شعارات تُعلَّق، ولا كلمات تُدرَّس في الدورات، ولا هي مقعد يتقدّم الصفوف. القيادة الحقيقية، تلك التي لم يشهدها التاريخ كثيرًا، تمشي بلا أقدام، وتضيء بلا ضوء، وتوجّه بلا أوامر. إنها فنّ الحضور دون أن تفرض نفسك، وعلم التأثير دون أن ترفع صوتك، وموهبة أن تُرى في كل مكان دون أن تشير إلى ذاتك. في إحدى الرحلات الميدانية إلى قلب القارة السمراء، تَبدّى هذا المعنى في هيئة إنسان. لم يكن في مقدمة الاجتماع، ولم يتصدّر الكلمة الافتتاحية، ولم يحرص على أن يُدرج اسمه في التقارير، لكنه كان هناك… في كل زاوية من المعنى، القيادة الرشيقة ليست تقليعة إدارية، ولا موضة تنظيمية، بل هي جوهر الإنسانية حين ترتدي عباءة المسؤولية. هي أن تمضي بالمؤسسة من نقطة إلى أخرى دون أن تُشعر الفريق بثقل الحركة، أو تحمّلهم صراع التوجيهات، أو تُربكهم بإشارات لا تنتهي. بل تفتح الطريق، وتُمهّد الوجدان، وتترك المساحة كي يتنفس العمل دون أن يُختنق بشخصنة المواقع. كان المشهد أشبه بفيلمٍ صامت، لا يتحدث بطله، بل يُحدثك حضوره عن كل شيء. في موريتانيا، أرض العلماء والتراب النبيل، كان يدخل الأماكن قبل أن تطأها قدماه، تسبقه نواياه، وتُرحّب به الأرواح قبل أن يُعرف اسمه. لم يكن مرسلًا بكلمة، بل برسالة. لم يكن يتحدث عن العمل، بل كان هو العمل نفسه. جلس في الزوايا لا ليتوارى، بل ليُشرف على الزوايا من الداخل. صنع التوازن بين الهيبة والبساطة، وبين الجدية والروح، وبين التخطيط واللحظة، ثم في مرحلةٍ أخرى، تغير المكان، واختلفت الوجوه، وضاق الوقت، لكن لم تتغيّر المبادئ. لم يحمل حقيبة المدير، بل حمل خفّة الصاحب، ومرونة الرفيق، وهدوء من لا يحتاج أن يُثبت شيئًا. كان يعرف متى يتقدّم، ومتى يتوارى، ومتى يترك الساحة لغيره ليتعلم، لأنه يعلم أن القيادة ليست استعراضًا، بل صناعة رجال. كان يظهر في خلفية الصور، لكنّه في الحقيقة كان يرسمها. كان يصغي للهمس، في حين انشغل الآخرون بالتصريحات. كان يقرأ النفوس، حين تقرأ العيون الوجوه فقط. وبينما توزّعت الأنظار على المهمات، كان هو يُرمم العلاقات، ويُعيد هندسة الثقة، ويزرع في الفريق شعورًا عجيبًا بالأمان: “ما دمتَ هنا، فأنا معك…” تلك هي القيادة الرشيقة. لا تُرهق من تحتك بالأوامر، ولا تُربك من فوقك بالتوجيهات، ولا تُضيّع ما بينهما بالضجيج. بل تخلق انسجامًا خفيًا، يجعل الفريق يتحرك كما لو كان قلبًا واحدًا. لا تشرح كثيرًا، بل تجعل الجميع يفهم دون أن يُقال. لا تفتخر بالإنجازات، بل تجعل الإنجاز نفسه يتكلم عنك. وقد حدث فعلًا. رأينا أثره في أعين العاملين، لا في جداول الأداء. شعرنا به في حرارة الاستقبال، لا في نقاط التقييم. لم يكن هناك من يتحدث عن “قائد المهمة”، لكن كل شيء كان يشير إليه. وكل لحظة كانت تقول: “لقد كان هنا، وإن لم يُعلن حضوره”. إن أخطر ما قد يغيب عن المؤسسات ليس التمويل، ولا الموارد، ولا حتى التخطيط. بل ذاك النمط الفريد من القيادة، الذي يُضفي على كل مهمة روحًا، وعلى كل فريق قلبًا، وعلى كل مرحلة قيمة. ذاك النوع الذي لا يُصدَّر، ولا يُشترى، ولا يُمنَح، بل يُبنى عبر عمرٍ من الصدق، والمواقف، والمبادئ التي لا تتغير بتغير الطقس الإداري. هذه القيادة لا تحتاج إلى أضواء لتُرى، لأنها هي الضوء. ولا تنتظر التصفيق لتتحرك، لأنها تتحرك بالمسؤولية. ولا تطلب الولاء، لأنها تُلهمه بالإخلاص، القيادة الرشيقة ليست مشروعًا مؤقتًا، بل مشروع عمر. وهي لا تظهر فقط في المهمات، بل تُختبر في الأزمات. لا تتقدم حين تُرفع الأعلام، بل تبقى حين تُطوى. لا تسعى لكتابة سيرة، بل تترك سيرة تُكتب وحدها، حين يرحل هؤلاء عن المشهد، لا يملأ مكانهم خطاب، ولا يحلّ غيابهم نظام. لأنهم كانوا النظام دون أن يُصرّحوا، وكانوا المنهج دون أن يُدرّسوا. في النهاية، لا يُخلّد القادة لأنهم أدّوا مهامهم، بل لأنهم أحدثوا تحولاً في روح الفريق، لأنهم علّمونا بالصمت ما لم نستطع أن نتعلّمه من ألف كتاب. لأنهم جعلونا نكتشف أن الإنجاز الحقيقي لا يُقاس بعدد الملفات، بل بعدد الأرواح التي أيقظوها. وهكذا… تغادر القيادة الرشيقة دون ضجيج، لكنها تترك خلفها أثرًا لا يُمحى، ومفهومًا لا يُنسى، وتجربةً يصعب تكرارها. هي الصورة النادرة للسلطة التي لا تستمد حضورها من الألقاب، بل من النُبل. من القدرة على التقدُّم خطوةً دون أن تطلب من أحد أن يتبعك، لأنّ القلوب سبقتك طواعيةً. هذا النوع من القيادة هو ما وصفه المسيري حين قال: “البطولة الحقيقية ليست في أن تغيّر الواقع بالقوة، بل في أن تُغيّر وعي الناس به، حتى يصبح التغيير جزءًا من وعيهم اليومي، لا مفاجأة عابرة”. فهؤلاء لا يقودون ليُبهروا، بل ليُغيّروا، ولا يسيرون في الطليعة ليستعرضوا، بل ليزيلوا العوائق أمام الآخرين وفي زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات وتقلّ فيه المعاني، تبقى القيادة الرشيقة النادرة هي الصوت الأعمق، الذي لا يُسمع بالأذن، بل يُصغي له الضمير. “وللضوء أن يمشي… إن وُجد من يُشبهه.” |
المقال عـلـى موقع الوطــن