|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي

للاستماع إلى النسخة الصوتية من هذا المقال
لم تكن رحلتنا من الكويت إلى كينيا رحلة عابرة في سجل الأسفار، بل كانت فصلًا آخر من فصول الجمع بين العمل والروح، بين المسؤولية والعائلة، بين تعب الطريق ودفء المائدة. هناك في نيروبي، حيث امتدت خطواتنا نحو مدينة ناكورو لتفقد المستشفى الوقفي والاطمئنان على سير العمل، بقيت أم الأحباب الغاليين أم طارق تصوغ بطريقتها الخاصة لوحة لا يقدر على رسمها سواها. ففي حين انشغل فريق العمل بزيارة ناكورو، لم تزر أم طارق الموقع، بل اختارت طريقًا آخر لا يقل نبلاً ولا عطاءً، فقد ذهبت قبل يومين إلى السوق بنفسها، تنزل بين الباعة وتختار بعناية، تتنقل من محل إلى آخر، تبحث عن أجود الخضروات، وأنقى اللحوم، وأصناف البهارات التي ستجعل من المائدة حديث القلوب قبل أن تكون حديث الأذواق. لم يكن الأمر مجرد تسوق اعتيادي، بل كان رحلة في العطاء، وقتًا مبذولًا بحب، وحرصًا يليق بأختٍ وأمٍ وزوجةٍ تعرف أن المائدة ليست أطباقًا فحسب، بل رسالة محبة مكتوبة على شكل نكهات وروائح.
بين السوق والمطبخ
يقول غاندي: “إن أبسط عمل محبة قد يزن أكثر من أعظم نوايا العالم”. وقد جسّدت أم طارق هذه المقولة في أبهى صورها. فحين عادت من السوق محمّلة بما تحتاجه، لم تترك الأمر لخادمة أو طاهٍ محترف، بل وضعت جهدها وروحها في إعداد مائدة الثلاثاء التي انتظرناها جميعًا. لم يكن في الأمر واجبًا اجتماعيًا، بل كان اختيارًا حرًا يفيض بالحب، وكأنها أرادت أن تقول لنا: “كما بذلتم جهدكم في العمل، أبذل جهدي في أن تكون لعودتكم نكهة لا تنسى”.
المائدة كلوحة إنسانية
جاء يوم الثلاثاء، فإذا بالمائدة التي أعدتها تفيض بما لا يُوصف:
• شوربة لحم بالليمون، أول ما يطرق حاسة الشم، يرسل إشارات دفء إلى الجسد وكأنه يواسيه بعد عناء السفر.
• صينية محشي كرنب وباذنجان وفلفل، كل ورقة كرنب مطوية بعناية كأنها رسالة حب خُطّت بخيوط يدوية.
• صينية أخرى لمحشي البصل، حبات البصل وقد تحولت إلى قناديل صغيرة تحمل في قلبها حبات الأرز كنجوم لامعة.
• محشي الكوسة، البسيط الذي يُغني عن كل زخرفة، كأنه شاهد على أن الجمال يكمن في العمق لا في القشرة.
• أطباق الملوخية، بلونها الأخضر الندي، تحضر كرمز للأصالة الممتدة من مصر إلى كل بيت عربي، لتقول إن للنكهة جذورًا كما للأوطان.
• اللحم المسلوق المحمّر، يذكرك بأن البساطة حين تُعانق الإتقان تصبح أطيب من كل زخرف.
• وأخيرًا، اللحم بالصلصة، يفيض بعطره فوق المائدة كأنما أراد أن يختم اللوحة بلمسة من القوة والعمق.
المعنى أبعد من المذاق
هنا ندرك أن المائدة ليست طعامًا فقط؛ إنها قيمة ورسالة. وقد أحسن ابن خلدون حين قال: “العمران البشري لا يقوم إلا بالتعاون”. فمائدة أم طارق لم تكن تعاونًا في الطعام فقط، بل في الروح والمعنى. لقد جمعتنا بعد سفر طويل ولقاءات مرهقة، لتعيد لنا توازننا النفسي، وتؤكد أن وراء كل جهد إنساني في الميدان، هناك جهد أسري لا يقل عظمة.
روح أم طارق
ما يميّز أم طارق ليس فقط إصرارها على العطاء، بل طريقتها في أن تجعل العطاء جزءًا من كيانها. حين تدخل السوق، لا تشتري فحسب، بل تختار بعين القلب. وحين تطبخ، لا تضع المكونات فقط، بل تمزج معها الحنان والذكريات والنية الطيبة. لذلك لم تكن المائدة مجرد وجبة، بل حالة شعورية عشناها جميعًا: فرح، امتنان، وراحة لا تُشترى.
درس في القيادة الصامتة
قد يتحدث الجميع عن القيادة في قاعات الاجتماعات، لكن أم طارق أعطت درسًا في القيادة الصامتة: أن تقود بالحب، وأن تبني بالحرص، وأن تترك بصمة لا تُمحى دون أن ترفع صوتًا. وكما قال تولستوي: “أعظم المحاربين هما الصبر والزمن”. لقد صبرت في السوق، أنفقت الزمن، وبالمقابل صنعت لحظة لن ينساها أحد.
أثر المائدة على القلوب
في تلك الليلة، ونحن نتحلّق حول المائدة، لم نكن نتحدث عن العمل فقط، بل كنا نضحك، نستذكر، ونشعر أننا أسرة واحدة رغم اختلاف البلدان. كانت المائدة خيطًا ربط بين الكويت وكينيا، بين رحلة المسؤولية ومقام العائلة، بين تعب السفر وحلاوة اللقاء. كل واحد منا خرج من تلك اللحظة وهو يردد في قلبه: “الحب يُطبخ قبل أن يُؤكل”.
ما وراء التفاصيل
إن لم يروَ ما فعلته أم طارق، لربما اعتُبر أمرًا عاديًا. لكن حين نتأمل، ندرك أن وراء كل تفصيل قصة: وراء اختيار البصل قصة صبر، ووراء غلي الملوخية قصة أصالة، ووراء تسخين اللحم بالصلصة قصة دفء. إنها التفاصيل الصغيرة التي تصنع الحياة الكبيرة.
ختام ودعاء
وها أنا أكتب عن تلك المائدة التي لم ولن تُنسى، فأدرك أن الكلمة تعجز عن وصف المشهد. ربما تستطيع اللغة أن تنقل لنا الأطباق، لكنّ الروح التي وُضعت فيها لا تُترجم إلا بالعيش فيها. اللهم بارك في الحبيبة أم طارق، واجعل عطاياها في صحائف عملها، وامنحها من بركة وقتها وعمرها وصحتها، كما منحتنا من حبها وكرمها. اللهم اجعل هذه المائدة شاهدة خير في الدنيا، ومائدة أجر في الآخرة، واحفظ لنا هذا الجمع بنعمتك وفضلك.
