|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

لم يكن المشهد عابرًا، ولا حركة جسدٍ عفويةً في فضاء مكتظ بالكلمات. كان شيئًا أبعد من السياسة وأكبر من البروتوكول. رجلٌ وقف يصدح بالحقيقة كما لو كان ينطق بلسان الضمير الإنساني الجمعي، والآخر اقترب منه، ثم انحنى برفق، ووضع قبلة على رأسه. مشهد قصير الزمن، لكنه أعمق من خطب المطولات، وأبقى من بيانات المنظمات. في تلك اللحظة، لم يعد العالم يتفرج على كلمات تُلقى من على المنابر، بل شهد ميلاد رمزية جديدة للصمود. رمزية تقول إن الكلمة حين تُصدق، تكتسب من القوة ما يجعلها تُحرك مشاعر بشرٍ فينحني لها إجلالًا، وتفيض إنسانية فتتحول إلى قبلة تحفظ المعنى للأجيال.
الكلمة حين تُصبح سلاحًا
يقول فولتير: “قد أختلف معك في الرأي، لكني على استعداد أن أموت دفاعًا عن حقك في أن تقوله.” هذه العبارة القديمة وجدت ترجمتها العملية في ذلك الموقف؛ فالكلمة الصادقة لا تحتاج إلى جيوش، بل إلى ضمير يقف بثبات ويجهر بها. وقف الرجل ليتحدث عن جرح الإنسانية، عن شعب يتنفس الصمود رغم أنف الحصار، عن أطفال لا يملكون من الدنيا سوى بسمات تخرج من بين ركام البيوت. لم يكن صوته صاخبًا، لكنه اخترق جدار الصمت، لأن الحقيقة لا تحتاج إلى مكبرات صوت.
قبلة تتجاوز الجغرافيا
ثم جاء الاقتراب. خطوة واحدة بين المقاعد كانت كافية لتذيب جليد السياسة. لم يسلم باليد، ولم يكتفِ بابتسامة، بل انحنى بوقار، وقبّل رأسه. لقد كانت القبلة نفسها خطابًا كاملًا، فيه رسالة اعتراف، ورسالة تقدير، ورسالة وحدة. إنها قبلة على جبين الصمود، قبلة على رأس من تكلم بالنيابة عن المقهورين، قبلة تؤكد أن العالم ما زال فيه من ينحني للحق لا للمصالح. ولعلنا نستحضر هنا قول غاندي: “في النهاية لن نتذكر كلمات أعدائنا، بل صمت أصدقائنا.” هذه القبلة كانت محاولة لكسر ذلك الصمت، لتقول: لسنا جميعًا غائبين، ولسنا جميعًا متفرجين.
رمزية الصمود
الصمود ليس مجرد بقاء في وجه العاصفة، بل هو أن تظل واقفًا حتى حين يريد الجميع أن يراك منبطحًا. أن تظل تُغني للحياة وأنت محاصر بالموت. أن تُثبت أن الإنسان أقوى من الحديد والنار، وأن الروح أكبر من سجونها. رمزية الصمود التي تجلت في تلك اللحظة تذكّرنا بمقولة نيلسون مانديلا: “لقد تعلمت أن الشجاعة ليست غياب الخوف، بل الانتصار عليه.” فالرجل الذي تكلّم كان يعرف حجم الضغوط، لكنه لم يتراجع، والرجل الذي قبّل رأسه كان يعلم حساسية الموقف، لكنه آثر أن يعلن انحيازه الإنساني بلا تردد.
حين تصمت المنابر وتتكلم الأفعال
كثيرًا ما تمرر القاعات خطابات طويلة لا يسمعها أحد، وكثيرًا ما تُكتب بيانات لا تُقرأ. لكن التاريخ لا يتذكر إلا اللحظات التي تنطق فيها الأفعال. اللحظات التي تتجاوز الحروف لتصبح صورًا خالدة. تلك القبلة أصبحت رمزًا، مثل يد مانديلا المرفوعة يوم خرج من السجن، مثل دمعة مارتن لوثر كينغ وهو يرى حلمه يتجسد في جموع السود والبيض معًا، مثل ابتسامة طفل غزّي يحمل حقيبته الممزقة لكنه يتجه للمدرسة متحديًا الدمار.
معنى الإنسانية
في زمنٍ غلبت فيه المصالح على المبادئ، جاءت هذه اللحظة لتعيد تعريف الإنسانية. الإنسانية ليست في مؤتمرات الإغاثة ولا في أرقام الإحصاءات الباردة، بل في أن يشعر إنسان بألم آخر فيحمله على كتفه أو يضع قبلة على رأسه. وهنا نستذكر قول: “الإنسانية هي أن أراك أنا فيك، وأرى نفسي فيك، فلا أستطيع أن أتركك وحدك.” لقد جسّدت تلك اللحظة هذا المعنى: أن ترى في معاناة الآخر جزءًا من ذاتك، وأن ترى في صموده مرآة لكرامتك.
قبلة تهزم الخوف
قد يتساءل البعض: وما قيمة قبلة؟ لكنها في سياقها، كانت هزيمة صريحة للخوف. الخوف من غضب الأقوياء، من خسارة المصالح، من تبعات إعلان موقف لا يُعجب البعض. ومع ذلك، وضعت تلك القبلة كفها على جبين الخوف وأسقطته. إنها تذكّرنا بما قاله علي عزت بيجوفيتش: “حين ينهزم الخوف يبدأ الإنسان في أن يكون إنسانًا.”
الدروس للأمة
من هذا المشهد تتعلم الأمة أن صوتها لا يُدفن، وأن الصمود ليس محصورًا في غزة وحدها، بل هو فكرة تنتقل من صدر إلى صدر، ومن قلب إلى قلب. تتعلم أن الانحناء للحق ليس ضعفًا، بل قمة القوة. كما تتعلم أن العالم، مهما بدا قاسيًا، لا يخلو من أصحاب الضمائر، وأن هناك دومًا من يرفع صوته أو يحنو بفعله ليقول: نحن معكم.
وختامًا، لم تكن تلك اللحظة مجرد حركة جسد، بل كانت معركة رمزية انتصر فيها الصمود على اللامبالاة. رجل تكلم فصار صوتًا للحق، ورجل قبّل رأسه فصار صورة للإنسانية.إنها لحظة ستُحفظ في أرشيف الوجدان الإنساني، كدليل على أن الكلمة الصادقة واللمسة الحانية قد تهزمان جبروت القوة، وأن الصمود حين يجد من يعترف به، يتحول إلى قبلة على جبين التاريخ نفسه.