|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

للاستماع إلى النسخة الصوتية من هذا المقال
في صباح هذا اليوم، الثلاثاء 23 سبتمبر 2025، الموافق غرة ربيع الثاني 1447هـ، خطونا إلى باحة المستشفى الوقفي بمدينة ناكورو الكينية. كانت هذه هي الزيارة الثالثة، وإذا بالعين تلمس في كل مرة تطورًا جديدًا، يضيف لبنة من الأمل فوق جدار الرحمة. هناك شيء استثنائي يحدث في هذه البقعة، ليس في المباني وحدها، ولا في الأجهزة الطبية التي تسابق الزمن، بل في الروح التي تتغلغل بين الجدران، روح جعلت المكان أشبه بوقف حيّ يتنفس نبض العطاء.
منذ اللحظة الأولى، يتجلى اسم المانحة، الدكتورة حصة الخال، ليس كحروف على لافتة، بل كمعنى ممتد، فالحصة هي نصيب، وهنا النصيب لم يكن مالًا يُنفق ثم يختفي، بل أثرًا يتضاعف، وخيرًا يتجدد، ورسالة تُغرس في الأرض لتثمر حياةً وأملاً. وكأن الاسم يفسر نفسه: نصيبٌ للخير، نصيبٌ للإنسان، نصيبٌ للأمة. أما آل الخال فهم رمز لعطاءٍ يكتب سطوره لا بالحبر، بل بأرواح المستفيدين الذين يجدون الدواء والكرامة والرجاء.
لوحة المؤسسية والحوكمة
ما يلفت النظر أن هذا المستشفى الوقفي لم يُبنَ على عاطفة الخير وحدها، بل صيغ وفق منطق المؤسسات. مجلس إدارة يقود الرؤية، مجلس تنفيذي يترجمها إلى خطط، اختصاصات ومهام ومسؤوليات موزعة بميزان، لتجد نفسك أمام كيان وقفي لا يكتفي بالنية الصالحة، بل ينهض على الاحترافية. هنا يتجسد قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إن الله يحب من العامل إذا عمل أن يتقنه.”، فالإتقان هو العنوان الأول في كل تفاصيل المستشفى.
تنوع التخصصات وروح التكامل
في سنة ونصف من عمر المستشفى، نبتت فيه أجنحة وتخصصات كأنها شرايين تمد الجسد بالحياة: النساء والولادة، الجراحة، الباطنة، العيون، وغسيل الكلى، أطفال، مسالك، أنف وأذن وحنجرة، ثم وحدات الأشعة والمختبر والصيدلية والعمليات، حتى الاستقبال والموارد البشرية والمخازن، كلها تعمل بتناغم لا تراه إلا في مؤسسة تعرف معنى الرسالة. إن التعدد هنا ليس شكلاً بل مضمونًا، فالمرض لا ينتظر تخصصًا واحدًا، والإنسان لا يتجزأ، لذا كان لا بد أن تكون الخدمة شاملة.
البشر قبل الحجر
أكثر ما يثير الدهشة أن القوة الحقيقية ليست في المباني أو الأجهزة، بل في البشر. مئة مورد بشري يشكلون العمود الفقري: أطباء بينهم استشاريون وأساتذة جامعات مشهود لهم بالسمعة والكفاءة، ممرضون يزرعون الطمأنينة قبل العلاج ، فنيون يحولون التقنية إلى شفاء، عمال يضمنون النظافة والاستمرارية. وإلى جانبهم شركات حراسة وتنظيف، لأن الخدمة الصحية لا تكتمل إلا بالأمان والنظافة. هنا يصدق قول علي رضي الله عنه: “قيمة كل امرئ ما يحسنه.”، وهؤلاء أحسنوا فأحسن الله إليهم.
لغة الأرقام والإنسان
ليس المهم أن نحصي العيادات، بل أن نقيس الأثر. والأثر هنا يضيء في وجوه المرضى، في خطوات المستفيدين المباشرين الذين غادروا أسِرّة المرض معافين، وفي غير المباشرين الذين شعروا بطمأنينة وجود مؤسسة وقفية بجوارهم. الأثر يظهر في الثقة التي جمعت المستشفى مع 35 شركة تأمين، وهو مؤشر ليس على عدد العقود فحسب، بل على السمعة المؤسسية التي أصبحت رأسمالاً معنوياً. الأثر يتجلى كذلك في انفتاح المستشفى على المجتمع: طلاب المعاهد الصحية يتدربون في أروقته، بالتعاون مع الجهات الرسمية، فيتخرج جيل جديد متشبع بروح الخدمة. إنه استثمار في الإنسان، لا يقل أهمية عن الاستثمار في المبنى. وهنا نستحضر قول نيلسون مانديلا: “التعليم هو أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم.”، والمستشفى بهذا المعنى ليس مكانًا للشفاء فقط، بل مدرسة للتكوين.
عطاء يتعدد ولا يتوقف
حين نتأمل مساهمة آل الخال، ندرك أن العطاء ليس حادثة عابرة، بل سيرة ممتدة. إنهم لا يكتبون أسماءهم على الحجر، بل يخطّونها في القلوب. كل مشروع وقفي يضاف إلى رصيد الأمة، وكل أثر مجتمعي يرسخ في الضمير العام. المستشفى هنا ليس مجرد مؤسسة طبية، بل شاهد على فلسفة آل الخال في تحويل المال إلى حياة، والوقف إلى تنمية. ولعل أجمل ما يقال في هذا المقام ما ذكره ابن القيم: “الصدقة تفدي العبد من عذاب الله، وتدفع عنه البلاء.”، وهنا الصدقة في صورتها الأرقى: صدقة جارية تعالج، تعلم، وتبني الثقة المجتمعية.
من الفكرة إلى النموذج
القيمة العظمى لهذا المستشفى أنه نموذج للمشروعات التنموية الوقفية. ففي الوقت الذي قد يُنظر إلى الوقف كعمل خيري تقليدي، يبرز هذا الصرح ليقول: الوقف قادر أن يكون مؤسسة معاصرة، تحتكم إلى معايير الجودة، وتخضع لقياس الأثر، وتستند إلى الحوكمة الرشيدة. هذه ليست مبالغة، بل واقع تراه في تقارير المستشفى، في تعدد الشركاء، وفي نمو سمعة المؤسسة في محيطها المحلي والإقليمي، وهنا نلمس البعد الاستراتيجي: أن يتحول الوقف من مبادرة فردية إلى نموذج مؤسسي قابل للتكرار. وكأن آل الخال لم يكتفوا بمد يد العطاء، بل غرسوا بذرة لفكر جديد في العمل الوقفي.
نبض الزيارة الثالثة
في هذه الزيارة الثالثة، لم يكن المشهد مجرد جولة بين الأقسام، بل رحلة بين الدلالات. ففي كل مرة، يظهر تطور جديد: أجهزة مضافة، أقسام أكثر تنظيمًا، بشر أكثر التزامًا. كأن المستشفى ينمو مع الزمن كما تنمو الأشجار، لكنه ينمو بثمرات الأرواح. من يقف هنا يدرك أن العطاء حين يُدار بمهنية، يتحول إلى تيار متجدد لا ينقطع. لقد غادرت المكان وقلبي يردد: إن الحصة التي قدمتها الدكتورة حصة الخال ليست نصيبًا من مال فقط، بل نصيبًا من روحها، نصيبًا من وقتها، نصيبًا من رسالتها. أما آل الخال فهم في سجل العطاء كالسطر الواضح في كتاب مفتوح، لا يقرأه الناس فقط، بل تعيشه الأجيال.
تأمل ختامي
حين نتحدث عن زيارة مستشفى وقفي بناكورو في هذا اليوم، فإننا لا نصف حدثًا عابرًا، بل نرسم مشهدًا من مشاهد نهضة الأمة عبر بوابة الوقف. المستشفى لم يعد مجرد مبنى، بل أصبح رمزًا لفلسفة العطاء حين تتجسد في مشروع تنموي متكامل. وأنا أستعيد كلمات الإمام الغزالي: “المال لا ينقص بالصدقة بل يزداد، كما أن النار لا يطفئها الماء بل يزداد به الزرع حياة.”، أدرك أن ما فعله آل الخال ليس مجرد إعطاء، بل زرع للأمل في أرض بعيدة، لتسقي أمة بأكملها. في نهاية الزيارة، خرجت بروح ممتنة، وعقل مفعم باليقين أن الوقف ليس أثرًا ماليًا فقط، بل أثر حضاري، وأن آل الخال قد كتبوا بهذا المستشفى سطرًا جديدًا في كتاب الإنسانية، سطرًا سيظل يتجدد ما دام هناك مريض يتعافى، وطالب يتعلم، ومجتمع يجد في مؤسسة وقفية سندًا ومعينًا.
اللهم اجعل ما قدّمته الدكتورة حصة الخال وآل الخال نورًا لهم في دنياهم، وذخرًا في أخراهم، وازرع بركتهم في قلوب العباد كما زرعوا الأمل في أرض بعيدة. اللهم اجعل نصيبهم من اسمهم نصيب خير لا ينقطع، وأثر برّ لا يُمحى، وصدقة جارية تفيض حياةً على المستفيدين جيلاً بعد جيل. وامنحهم يا رب من عطائك أوسع مما بذلوا، ومن فضلك أبقى مما أعطوا، ومن رحمتك أعمق مما تَمنّوا.
