|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

في صباح الثلاثاء 23 سبتمبر 2025، الموافق غرة ربيع الثاني 1447هـ، كانت الخطوات تتجه صوب مستشفى وقفي في مدينة ناكورو الكينية. للوهلة الأولى، قد يظنه المرء مبنى طبيًا كبقية المستشفيات، لكنه في الحقيقة نموذج قيادي وتنموي متفرد، يختصر فلسفة كاملة عن كيف تتحول المبادرات الوقفية إلى مؤسسات معاصرة تقود التنمية وتنهض بالمجتمعات
من الفكرة إلى المنظومة
القيادة هنا ليست عنوانًا يُرفع، بل ممارسة تُرى. مجلس إدارة يرسم السياسات الكبرى، مجلس تنفيذي يترجمها إلى خطط، اختصاصات واضحة، مسؤوليات محددة، وشفافية تجعل المؤسسة قادرة على البقاء والنمو. هذا النموذج الوقفي يبرهن أن العطاء لا يعيش طويلًا إن بقي مبادرة فردية، لكنه يخلد حين يتحول إلى منظومة مؤسسية. وكما قال أرسطو: “الغاية من العمل ليست المعرفة، بل التطبيق.”، وهنا التطبيق هو ما يميز المستشفى عن مجرد نية صالحة.
جسد واحد بروح واحدة
يضم المستشفى أقسامًا متعددة: النساء والولادة، الجراحة، الباطنة، العيون، غسيل الكلى، الأشعة، المختبر، الصيدلية، العمليات، الموارد البشرية، المخازن، والاستقبال. كل قسم يؤدي دوره، لكن القيادة تصهر هذا التنوع في تكامل حيّ، أشبه بجسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء. إنها فلسفة القيادة الحديثة: لا وحدة بلا تنسيق، ولا تنسيق بلا قيادة. ومن هنا يتحقق قول النبي ﷺ: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا.”
البشر قبل الحجر
قد تكون الأجهزة الطبية باهظة الثمن، لكن القيمة الحقيقية تكمن في 100 مورد بشري يشكلون العمود الفقري للمستشفى: أطباء بينهم استشاريون وأساتذة جامعات مرموقة، ممرضون يزرعون الرحمة قبل الحقن، فنيون يحولون التقنية إلى شفاء، عمال يضمنون النظافة والاستمرارية. الأجمل أن المستشفى بنسبته 5% أجانب و95% محليين، يعكس قيادة واعية تؤمن بأن التنمية الحقيقية لا تستورد، بل تُزرع في أهل البلد. هذا التوازن ليس رقمًا إحصائيًا فحسب، بل سياسة قيادية رشيدة: استقطاب الخبرات حين يلزم، وتمكين الكفاءات المحلية لتكون صاحبة المستقبل. وهنا يصدق قول مالكوم إكس: “لا يمكن لأمة أن تنهض إلا برجالها ونسائها.”
الحوكمة والسمعة المؤسسية
لم يقف المستشفى عند تقديم الخدمة، بل عزز سمعته من خلال التعامل مع 35 شركة تأمين، ما يعني أن المؤسسة الوقفية ليست معزولة، بل مندمجة في النظام الاقتصادي والاجتماعي، بما يعزز الثقة والاعتماد المتبادل. وهذا يفتح بابًا آخر للقيادة: أن النجاح لا يُقاس بما تقدمه المؤسسة فقط، بل بما تبنيه من شراكات مستدامة. فالقيادة الحقيقية لا تُغلق الأبواب، بل تفتح النوافذ على اتساعها.
لغة العطاء المعاصر
لا يكفي أن نسرد إنجازات، بل لا بد أن نقيس أثرها. القيادة في هذا المستشفى تقرأ أثرها في المستفيد المباشر الذي ينال العلاج، وفي المستفيد غير المباشر الذي يشعر بالطمأنينة أن مؤسسة وقفية تحيطه بالأمان. الأثر يتجلى أيضًا في التدريب العملي لطلاب المعاهد الصحية بالتعاون مع الجهات الرسمية، حيث يتحول المستشفى إلى مدرسة قيادية تصنع أجيالًا من الكفاءات. وهنا نستحضر قول نيلسون مانديلا: “التعليم هو السلاح الأقوى لتغيير العالم.”
الوقف فلسفة ممتدة
ما يميز هذا النموذج أنه يترجم فلسفة الوقف إلى واقع معاصر. الوقف لم يعد مجرد بناء مسجد أو توزيع صدقات، بل صار مؤسسة حية تخضع للحوكمة والشفافية وتساهم في التنمية. المستشفى الوقفي في ناكورو يجسد أن الوقف حين يُدار بمهنية يصبح قاطرة للتنمية الاجتماعية، يداوي المرض، يخلق فرص عمل، ينقل خبرة، ويبني مجتمعًا. وهنا تتجلى كلمات ابن خلدون: “العدل أساس العمران.”، والوقف المؤسسي العادل هو أساس العمران الصحي والاجتماعي معًا.
التنمية الاجتماعية ونهضة المجتمعات
النموذج الأجمل أن المستشفى لا يعالج الناس فحسب، بل يعالج المجتمع من أمراض التبعية والعجز. بتمكين 95% من الكوادر المحلية، أصبح المشروع ملكًا للمجتمع نفسه. لم يعد الناس متلقين سلبيين، بل شركاء فاعلين. هكذا تتحقق النهضة الحقيقية: حين يتحول العمل الوقفي إلى رافعة اجتماعية، لا خدمة عابرة. وهنا يمكن أن نقتبس من مالك بن نبي: “المجتمع لا يُبنى من فوق، بل من داخله.”، وهذا المستشفى نموذج لبناء المجتمعات من داخلها.
المشاعر في قلب الاحترافية
القيادة هنا لا تفصل بين المهنية والرحمة. فالابتسامة في الاستقبال جزء من العلاج، والرحمة في التمريض جزء من الكفاءة، والإنصات للمريض جزء من التشخيص. إنها قيادة تعرف أن الإنسان لا يتجزأ، وأن الروح تحتاج علاجًا كما يحتاج الجسد.
دروس من الزيارة الثالثة
في هذه الزيارة الثالثة، بدا المشهد مختلفًا. كل مرة هناك تطور جديد: أجهزة أكثر، أقسام أكثر تنظيمًا، موظفون أكثر التزامًا. كأن المستشفى ينمو كما تنمو الشجرة: جذور في الأرض، وأغصان في السماء، وثمرات للأجيال. الزيارة الثالثة ليست مجرد متابعة، بل شهادة على أن القيادة المؤسسية المعاصرة قادرة على تحويل الوقف من مبادرة إلى منظومة، ومن فكرة إلى مدرسة، ومن عطاء فردي إلى نهضة مجتمعية.
نموذج للمستقبل
المستشفى الوقفي في ناكورو ليس مجرد مؤسسة طبية، بل مختبر حيّ للقيادة المؤسسية والتنمية الاجتماعية. هو دليل أن العطاء حين يُدار بالحوكمة يتحول إلى تنمية، وحين يُمزج بالرحمة يتحول إلى حضارة، وحين يُبنى على الشراكة يتحول إلى نهضة. وحين يُكتب تاريخ العمل الوقفي المعاصر، سيقف هذا النموذج شاهدًا على أن القيادة ليست تنظيرًا في الكتب، بل ممارسة حية، وأن الوقف ليس أثرًا ماليًا جامدًا، بل طاقة متجددة تبني الإنسان والمجتمع معًا. ولعل أجمل ما يُختتم به قول جبران خليل جبران: “ما تعطيه اليوم، ستجده غدًا أضعافًا مضاعفة في قلب الحياة.”، وهنا العطاء الوقفي لم يكن صدقة عابرة، بل حياة ممتدة.