|
Getting your Trinity Audio player ready...
|


محمد تهامي
في صباح الاثنين 22 سبتمبر 2025، لم يكن خروج العائلة من نيروبي إلى ضواحي كيامبو مجرد رحلة ترفيهية عابرة، بل كان امتدادًا غير معلن لرحلة العمل التي بدأت قبل أربعة أيام. فبعد الاجتماعات المكثفة، والقرارات والتوصيات، والنقاشات التي امتدت من الفجر حتى الليل، جاء اليوم ليقول: لا تكتمل الرسالة إلا حين يلتقي العمل بروح العائلة، ولا ينضج التخطيط إلا إذا ارتوى بظل الطبيعة.
التحرك في التاسعة وعشرين دقيقة صباحًا لم يكن موعدًا عاديًا. قاد الحبيب طارق السيارة بخطوات واثقة، وعلى المقاعد تزيّنت الرحلة بوجود أم الحبايب، ورفيقة القلب هاجر. ثلاثة أجيال اجتمعت في مركبة واحدة: الأب والأم اللذان يحملان ذاكرة المسافات، الابن الذي يمسك المقود بروح الحاضر، والابنة التي تعطر الجو بحضورها الباسم.
البوابة … عبور إلى عالم آخر
حين وصلت السيارة إلى بوابة حديقة نيبوشا للشاي في تيغوني، لم يكن تسجيل رقم المركبة وقطع التذاكر مجرد إجراء إداري، بل كان رمزًا للعبور من صخب المدينة إلى سكينة الريف. لحظة الدخول بدت وكأنها خلع عباءة الضجيج وارتداء ثوب الطمأنينة.هناك، استقبلتهم المساحات الخضراء المتدرجة على الهضاب، كأنها أمواج ساكنة بلون زمردي. شجرة الشاي، بانتظامها البديع وصفوفها الممتدة بلا نهاية، لم تكن مجرد نبات يُزرع ليُقطف، بل كانت درسًا في الانضباط والإنتاج، تذكّرنا بقول الإمام علي رضي الله عنه: “قيمة كل امرئ ما يُحسن”؛ فالزراعة التي تُحسن تنظيم صفوفها تُثمر عطاءً مضاعفًا.
مفاجأة على العشب
وما إن حط الرجال وأهل البيت رحالهم، حتى أخرجوا من الحقائب الصغيرة ما يُحوّل المكان إلى وليمة خضراء. تفاح يلمع بصفاء، برتقال يوسفي بعبق رائحة الطفولة، وصينية بسبوسة بور سعيدية أُعدّت في ساعة متأخرة من الليل لتصبح جسرًا بين وطن بعيد وذاكرة قريبة. ثم جاءت أنواع الشوكولاتة لتُبهج القلوب، وقهوة عربية يرافقها تمر كعهد أصيل، ومشروبات ساخنة كأنها قائمة مقهى عالمي: شاي كرك متعدد المذاق، كاكاو دافئ، نسكافيه سريع، وشاي كيني أصيل يشهد على أرضه.
ولم تكتمل اللوحة إلا بـ صينية التسالي: لب أسمر، لب أبيض، فستق، حمص، تتناثر حباتها بين الأيادي مثل نجوم صغيرة تضيء الأحاديث. هنا أدرك الجميع أن الضيافة ليست بما يُقدّم فقط، بل بكيفية المشاركة، فكل يد كانت تمتد، لا لتأخذ وحسب، بل لتقدّم وتشارك، وكأن المائدة ترجمت مقولة جبران خليل جبران: “ليس الجود أن تعطيني ما أنا أشد حاجة إليه منك، بل الجود أن تعطيني ما أنت أشد حاجة إليه مني.”
حديث مع الشمس
ومن الطرائف التي سجّلها ذلك اليوم أن الشمس دخلت طرفًا في الحوار. كانت مشرقة بغير عنف، لكن الجمع خاطبها بلطف: “لا تكوني حارة اليوم، أمهلينا بظلّك.” وكأنها سمعت، فما هي إلا لحظات حتى أرسلت سحابة رقيقة أخفتها نصف ساعة، ثم عادت تنثر دفئها على الهضاب. كان المشهد أشبه بدرس غير مكتوب: حتى الطبيعة تستجيب لروح الدعاء حين يخرج من قلب صافٍ.
رياضة تمشي في الذاكرة
ثم انطلقت الأقدام في رياضة مشي استمرت ساعة ونصف بين الممرات الخضراء. لكن تلك الخطوات لم تكن جسدية فقط، بل كانت رحلة في الذاكرة. تبادلوا الأحاديث: عن الطفولة التي حفرت ضحكاتها في الأزقة القديمة، عن الصبا بما حمل من تجارب وأحلام، عن الاجتماعات والمؤتمرات وما دار فيها من جدية ومسؤولية. اختلط الجد بالمرح، الماضي بالحاضر، وكأن المشي نفسه حوار بين الزمنين.وقد تذكرت عندها قول أرسطو: “في المشي تتولد الأفكار.” ولعل هذا ما حدث فعلًا، إذ لم تكن الأحاديث مجرد ذكريات، بل انبثقت منها رؤى للمستقبل، كما لو أن الخطوات على العشب كانت تحرّك العقل والقلب معًا.
بين العمل والعائلة
اللافت أن هذه الرحلة العائلية لم تكن انعزالًا عن هموم العمل، بل كانت استراحة عميقة تعيد تشكيل الرؤية. فالعمارة الوقفية، والبرج السكني، والرقابة المالية التي نوقشت بالأمس، وجدت اليوم صدى آخر: أن كل مشروع مهما كان كبيرًا، لا يساوي شيئًا إذا لم يحتضن روح العائلة.فالذي يجلس بين أبنائه على العشب، ويتقاسم معهم الفاكهة والبسبوسة، هو ذاته الذي يستطيع أن يبني مشروعًا يراعي الناس. وكأن الرحلة أرادت أن تذكّرهم بقول عمر بن عبد العزيز: “إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما.” الليل كان للبسبوسة المُعَدّة بمحبة، والنهار كان للمشي والحديث، وكلاهما عمل صالح إن صحّت النية.
عودة عند الخامسة
مع انحدار الشمس نحو المغيب، اتخذت السيارة طريق العودة. كانت الساعة تشير إلى الخامسة مساءً حين لامست عجلاتها طرق نيروبي مرة أخرى. لكن العودة لم تكن إلى مكان فحسب، بل إلى توازن: توازن بين روح الاجتماع بالأمس وروح العائلة اليوم، بين التخطيط الجاف والأحاديث العذبة، بين جداول العمل وصفاء الطبيعة.
ما وراء الرحلة
هذه الرحلة ليست قصة عائلية فحسب، بل درس استراتيجي في القيادة الإنسانية. فالقائد الذي يُخصّص وقتًا لأهله، ويُشرك أبناءه في تفاصيل يومه، هو نفسه الذي يستطيع أن يقود مؤسسة بوعي وتوازن. إن النجاح ليس أن تُقيم برجًا في مدينة، بل أن تُقيم جسرًا بينك وبين من تحب.وهنا تحضر كلمات الحكيم كونفوشيوس: “العائلة هي الأساس، فإذا قمت بتصحيحها، سيتبعها كل شيء آخر.” كانت نيبوشا شاهدًا على أن تصحيح الموازين يبدأ من هنا: من حضن الأسرة في حضن الطبيعة.
وختامًا، رحلة نيبوشا لم تكن زيارة إلى مزرعة شاي على بعد 25 كيلومترًا من نيروبي وحسب، بل كانت مؤتمرًا روحيًا عقدته العائلة تحت سقف السماء. كان الإفطار على العشب أجمل من أي فندق، وكانت الأحاديث أدفأ من أي محضر رسمي، وكانت الشمس والسحابة جزءًا من البرنامج.إنه مقال لم يستطع أحد تدوينه؛ لأنه يتطلب عينًا ترى المعنى خلف التفاصيل: ترى في شجرة الشاي درسًا في الصبر، وفي البسبوسة حنينًا لوطن بعيد، وفي لب أبيض وفستق وحمص رمزًا للمشاركة، وفي حديث الشمس درسًا عن اللطف الإلهي. من يقرأ هذه الرحلة يدرك أن نيبوشا لم تكن ضاحية من كيامبو فقط، بل كانت مساحة يلتقي فيها العمل بالعائلة، الأرض بالسماء، والذاكرة بالحاضر. ومن هناك، يعود المرء ليكتب لا عن رحلة استجمام، بل عن رحلة حياة.