ذاكرة الطفولة ووصية الأمة

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

محمد تهامي

ذاكرة البداية

“فلنربط على قلوبنا ونصدق، وصفّنا مرصوص لا لبنات ناقصة”…
لم تكن هذه الكلمات مجرد مطلعٍ شعريٍّ عابر، بل كانت خيطًا سرّيًا يربطني بأرض الميلاد: ههيا – الشرقية – مصر. في تلك الأزقة الطينية، بين ضحكات الأطفال وصوت المؤذن عند الفجر، أبصرتُ أول معنى للحياة: أن التراب ليس جمادًا، بل ذاكرة تحفظنا كما نحفظها. هناك، كان البيت الصغير أكثر رحابة من القصور، لأن جدرانه احتضنت دفء العائلة وصوت الأجداد، ولأن هواءه مشبع بصدق البدايات.يقول الإمام علي رضي الله عنه: “من لم يعرف قدر ما مضى من أيامه لم يُقدّر ما بقي من عمره.” وهكذا، فإن كل لحظة من طفولتي في ههيا كانت حجرًا صغيرًا في بنيان نفسي، أساسًا لقيمةٍ كبرى سترافقني ما حييت: أن الإنسان لا يكتمل إلا بجذوره.

الانتماء الذي يتسع

ظننتُ طويلًا أن حنيني لههيا أمرٌ شخصيٌّ بحت. لكن ما أن نشرت مقالي الأول، حتى جاءني صدى القراء: “أحسنت يا غالي، كتبت كل ما يجول في خاطري”. عندها أدركت أن القرية ليست مكانًا جغرافيًا فقط، بل هي مرآة جمعية. فما كتبته عن ههيا هو ما يحسه ابن كوم شريك – البحيرة، وما يعيشه ابن القوصية – أسيوط، وما يحنو إليه ابن السلامون-الشرقية، بل وما يحمله ابن أي قرية مصرية أو عربية أو حتى قرية في أطراف أوروبا وأمريكا حيث حمل المهاجرون أوطانهم في قلوبهم.

لقد وسّعت كلمات القراء الدائرة: من ههيا إلى كوم شريك، ومن القوصية إلى الكويت، ومن السلامون إلي تايلاند، ومن ضفاف النيل إلى شواطئ الأطلسي. جميعنا نحمل في دواخلنا الطفولة ذاتها: خبز الأم على التنور، لعب الاستغماية حتى الغروب، صوت المؤذن الذي يخترق الصمت، ورائحة المطر التي تجعل الأرض حية.

القرى كمدرسة إنسانية

القرى الصغيرة ليست مجرد جغرافيا مهمشة، بل هي مدرسة كبرى للإنسانية. منها تعلمت أن البساطة ليست نقصًا، بل امتلاء. ومنها تعلمت أن التعبير عن الفرح بالحكايات والضحكات قد يكون أصدق من أي مظاهر براقة.كنت أرى في وجوه الرجال الخارجين مع الفجر إلى الحقول صورة الكدّ الشريف. وأرى في وجوه الأمهات وهن يخبزن العيش البلدي نارًا أقدس من نار الملوك، لأنها نارٌ تشعل الحياة لتُطعمها، لا لتُحرقها. وهكذا تعلمت أن القيم الكبرى لا تُلقَّن في الجامعات، بل تُزرع في الحقول وبين جدران الطين.

يقول طاغور: “الأرض هي أمنا الأولى، ومن لا يحسن برّها لا يحسن برّ أحد.” وكنت أرى هذا المعنى في كل يدٍ متشققة بالفلاحة، وفي كل قلبٍ صابر على قلة الموارد وكثرة المسؤوليات.

الغربة والحنين

ما أقسى أن تبتعد عن أول مكان احتضنك. الغربة قد تمنحك معارف وتجارب، لكنها لا تمحو من قلبك صورة القرية الأولى. كلما سافرت بعيدًا، كانت ههيا تلاحقني: في طعم الخبز الذي أفتقده، في رائحة المطر الذي يعيدني إلى شوارعها الترابية، في صوت الأذان الذي كنت أسمعه من المسجد القريب.يقول محمود درويش: “الحنين هو توق الإنسان إلى مكان لم يعد ممكنًا العودة إليه، أو ربما لم يكن موجودًا إلا في خياله.” ومع ذلك، فإن حنيني إلى ههيا لم يكن خيالًا، بل حقيقة متجددة. فالطفولة التي عشناها لا تموت، بل تتحول إلى يقين أن الإنسان بلا جذور كالسحاب بلا مطر.

من الفرد إلى الأمة

حين كتبت عن ههيا، وجدت أن كلماتي لم تعد تخصني وحدي. لقد صارت مرآةً لأجيالٍ عاشت تجارب متشابهة في قرى مصرية وعربية مختلفة. لقد صدق من قال: “الوطن ليس حدودًا على الخريطة، بل هو مجموعة من الذكريات التي نحملها في قلوبنا.” وهنا، يتحول الخاص إلى عام، والسيرة الذاتية إلى سيرة جماعية. ما بين ههيا وكوم شريك والقوصية والسلامون، وما بين الكويت وغزة، وما بين المهاجرين في أوروبا وأمريكا، تتشكل لوحة واحدة: لوحة الحنين إلى الأصل، والانتماء الذي يتسع حتى يشمل الأمة كلها.

مرآة الأمة

لا أستطيع أن أكتب عن ههيا دون أن أكتب عن غزة. فههيا أعطتني الميلاد والحنين، وغزة تعطيني اليوم الواجب والمسؤولية. كلتاهما مدينتان تحملان معنى الانتماء، لكن غزة وحدها تختصر جراح الأمة كلها. واجبنا تجاه غزة هو امتداد لواجبنا تجاه قُرانا الأولى. كما نحفظ ذكرى ههيا في قلوبنا، يجب أن نحفظ غزة في أفعالنا. ليس بالكلام وحده، بل بالدعاء الصادق، بالعطاء الكريم، بالموقف الثابت، وبالوعي الذي يفضح كل ظلم. يقول توماس كارلايل: “الأبطال هم الذين يضحّون بأنفسهم ليتركوا طريقًا للآخرين.” وأبطال غزة اليوم يصنعون تاريخًا سيذكره العالم، لكن السؤال: ماذا نصنع نحن؟ هل نبقى متفرجين، أم نصبح مرصوصين كاللبنات لنكمل بناء الكرامة؟

الربط بين الأوطان

لقد وجدت في رسائل القراء ما يربط بين مصر والكويت وأوروبا وأمريكا. فالمهاجر الذي يعيش في نيويورك أو لندن أو باريس يحمل في داخله قرية صغيرة: ربما كوم شريك، ربما القوصية، ربما السلامون. والمهاجر الذي بنى حياته في الكويت لم ينس جذوره الأولى، بل صار يجمع بين حب الأرض التي ولد عليها والأرض التي أعطته فرصة العيش. هكذا نفهم أن الانتماء لا يتجزأ. أن نكون مخلصين للقرية الأولى يعني أن نكون أوفياء للوطن، وأن نكون أوفياء للوطن يعني أن نكون أمناء لقضايا الأمة.

مرصوصون كالبنيان

لقد علمتني ههيا أن الأرض الصغيرة يمكن أن تحمل معنىً كبيرًا، وأن الحنين ليس ضعفًا بل قوة. وعلّمتني كلمات القراء أن النصوص الصادقة تتحول إلى مرايا جماعية. وعلّمتني غزة أن الانتماء الحقيقي هو ما يُترجم إلى موقف. فلنربط على قلوبنا ونصدق، وصفّنا مرصوص، لا ثغرات فيه ولا لبنات ناقصة. فمن السلامون إلى تايلاند، ومن كوم شريك إلى أمريكا، ، ومن القوصية إلى الكويت، وم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top