حين يفترش القلب مائدة من حنين

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

محمد تهامي

لم يكن السفر مجرد انتقال من مطار إلى مطار، ولا كانت الحقائب مجرد أوزان تُحمل على ظهر سيارة. كان الأمر أشبه بانتقال وطنٍ كامل، مطويٍّ بين ثنايا الذاكرة، ومُخبّأ في طيات الحنين. وحين لم تجد السيارة مكانًا للحبيبة هاجر، بدا المشهد للوهلة الأولى عاديًا: غياب جسد عن الرحلة. لكن الحقيقة أن الغياب كان له وقع أثقل من حقيبة، وأشد من فقد مقعد. لقد كان فراغًا في قلب الأم، وجرحًا صغيرًا في لحظة اللقاء، كأن ابتسامةً ما قد نُقصت من الصورة العائلية.

غير أنّ ما فعلته هاجر لاحقًا قلب المشهد كله. إذ لم تستسلم لفكرة الغياب، ولم تجعل الغربة تحرم العائلة من حضورها. لقد أعدّت مفاجأة أبلغ من آلاف الكلمات: مائدة مصرية خالصة على أرض نيروبي. كأنها أرادت أن تقول: “إن لم تحضر قدماي المطار، فقد حضرت مصر بيديّ إلى بيتكم.” وهنا انكشف السر: ليس الوطن جغرافيا، بل قدرة على استحضار الروح حيثما كنا.

إفطار يكتب بماء الذاكرة

ما إن دخلنا حتى فوجئنا بطاولة لا تشبه الطاولات. لم تكن مجرد أطباق، بل كانت نصوصًا صغيرة تروي حكايات كبرى:
• البيض المقلي بالسمن: رائحته وحدها كانت كافية لتوقظ صباحات الطفولة، وكأن السمن يفتح نافذةً على بيت الجدة.
• الفول المصري: لم يكن طعامًا يُؤكل، بل كتابًا يُقرأ. شعرت وأنا أتناوله أن حباته تخبّئ بين طياتها تاريخ أمة، من صبر الفلاحين إلى طقوس السحور في رمضان. قلت في نفسي: هذا الفول وحده يحتاج مقالًا.
• البطاطس الشيبس: بسيطة، لكنها أشبه بوردة تذكّرنا أن البساطة قادرة على هزيمة الغربة.
• الجبن الرومي والطماطم بالجبنة البيضاء: تناغمٌ بين النكهة والحكاية، بين القرية والمدينة، بين الأمس واليوم.
• الباذنجان المقلي: ليس مجرد طبق، بل أيقونة من ليالي الصيف، حين كانت النسمة الباردة ترافق جلسات العائلة.

ثم جاء الباذنجان المخلل، بطل المائدة، بطعمه الذي يعجز عن وصفه قلم. كان وكأنه يروي في كل قضمة قصة قرية كاملة: أزقة ضيقة، جيران يتبادلون الصحون، وأم تحمل لأطفالها زاد المساء. أما البطيخ، فقد كان يحمل طعم مصر، حتى وإن نما في أرض نيروبي، ليعلن أن الهوية لا تستأذن الجغرافيا كي تبقى.

وما أبهى خبز النخالة: طري ومقرمش في آن، يُذكّرك أن الخبز في مصر ليس مجرد طعام، بل حياة، كما قال غاندي: “هناك من يعيش ليأكل، وهناك من يأكل ليعيش، أما الفقير فهو يعيش على أمل رغيف.” وهكذا تحولت المائدة إلى جسر بين الغربة والوطن، بين الحاضر والماضي، بين الذاكرة والطعم. أدركت يومها أن “الغربة” تنهزم أمام طبق فول، وأن “الوطن” قد يختصر في لقمة خبز مع من نحب.

وطن مصغر على طاولة

قال الإمام الشافعي: “ما طابت الدنيا إلا بثلاث: صحبة الأخيار، وعيش القناعة، ولقمة يتقاسمها الأحبة.” وقد اجتمعت الثلاث كلها في ذلك الصباح. لم يكن الإفطار وليمة عابرة، بل كان وطنًا مصغرًا. وطنًا يمكن حمله على مائدة صغيرة، دون جواز سفر ولا ختم حدود. لقد أصبح البيت في نيروبي نسخةً مصغرة من بيتنا الأول، كأن الغربة لم تعد تُعرّف بالبعد عن الوطن، بل بالبعد عن هذا الإحساس الذي أعادت هاجر إحياءه.
ولم تكن الأم وحدها التي ارتوت من هذا المشهد، بل حتى الأبناء. طارق جلس يشارك ضحكاته، وكأنه يعلن أن الوطن ليس فقط في وجوه الأمهات، بل في كل يدٍ تُعيد إلينا ذاكرة البدايات.

أربع رحلات في رحلة واحدة

لقد أدركت في تلك الأيام أن الرحلة إلى كينيا لم تكن رحلة واحدة، بل أربع رحلات في ثوبٍ واحد:
1. رحلة مسؤولية: الأجندة المؤسسية التي أعددناها منذ شهرين كانت محورًا أساسيًا. كنا نعلم أننا نحمل على عاتقنا أمانة لمؤسسة، وأمانة لمجتمع ينتظر ثمرات عملنا. وهنا تذكرت قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لو عثرت بغلة في العراق، لسألني الله عنها، لمَ لم تصلح لها الطريق يا عمر؟” فما بالنا بمسؤوليات أكبر من طريق لبغلة!
2. رحلة شوق: الأم كانت الملامح الأولى لها. في كل خلجة من خلجاتها، في كل دمعة حبستها كي لا تفضح شدة اللهفة، كان يتجلى أن الشوق ليس غيابًا عن العين، بل حضورًا في القلب.
3. رحلة لقاء: هنا التقت الأرواح على أرض نيروبي. طارق وهاجر لم يكتفيا بأن يسكنا الغربة، بل صنعا منها وطنًا. بيديهما، بابتسامتهما، بمائدتهما، حملا رسالة أن “الوطن” ليس مكانًا بل قدرة على البناء.
4. رحلة ذائقة: الإفطار المصري لم يكن طعامًا، بل وثيقة حب مكتوبة على ورق النكهة، موقّعة بخط اليد، لا بخط القلم.

جسر بين الدنيا والآخرة

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “الناس أبناء ما يحسنون.” وما أحسن أن يكون المرء وفيًّا لأمانته، صادقًا مع نفسه، قائمًا على مسؤوليته. في تلك الرحلة، اجتمع الجسران: جسر المؤسسة وجسر الأسرة، جسر الدنيا وجسر الآخرة. فالأمانة لم تعد مهمة وظيفية فقط، بل صارت عبورًا إلى الله. وهنا تذكرت قول محمد الغزالي: “الأمة التي تضيع الأمانة، يهون عندها كل شيء بعد ذلك.” لقد أيقنت أن الوفاء بالأمانة، سواء كانت خبزًا على طاولة، أو أجندة على مكتب، هو مفتاح النجاة في الدنيا والآخرة.

من القلب إلى القلب

يا طارق… يا من تحمل الاسم فتصير كالطارق الذي يفتح الأبواب الموصدة، جئت إلى الغربة لا لتزيدها غربة، بل لتجعلها بيتًا عامرًا بالدفء. حملت في قلبك يقينًا أن الوطن ليس جدارًا من طوب، بل كلمة طيبة، ولمسة حانية، ونية صافية تُحيل الصحراء جنة. ويا هاجر… كأن اسمك ظلّ يسافر منذ أم هاجرت في مكة إلى ربها، فأصبح فيكِ معنى التضحية والوفاء. لم يَغِب جسدك عن المطار إلا لتحضري أعظم حضور، مائدة حنين أبهرت الجميع، وكأنكِ تقولين: “أنا الوطن الذي يُفرش على طاولة، أنا اليد التي تصوغ الطمأنينة في الغربة.”

أنتم الاثنان معًا صورة مصغرة لوطنٍ جديد، وطن لا يعرف حدودًا، وطن يُبنى بالحب والوفاء. لقد جمع الله بينكما على دربٍ واحد، دربٍ يذكّرنا بكلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “البيوت تُبنى على الحب، فإن زال الحب لم تبق إلا جدران باردة.” وأنتم قد جعلتم الجدران تغني. وإن أعظم ما نرجوه أن يُزيّن الله بيتكما بالذرية الصالحة؛ ذرية تحفظ العهد، وتضيء الطريق، وتكون امتدادًا لخيركما. ذرية كغرس مبارك، تضرب جذورها في الأرض، وتمتد أغصانها نحو السماء، كما قال الله تعالى:
﴿أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها﴾. فيا رب، اجعل لطارق وهاجر من ذريتهما قرة أعين، وأبناءً يذكرونك صباح مساء، ويكونون لهم في الحياة سندًا، وفي الآخرة زادًا. اللهم اجعلهم من حفظة كتابك، ومن العاملين بسنّة نبيك، ومن الساعين في الأرض بالخير والإصلاح

هكذا انتهت الزيارة، لكنها في الحقيقة لم تنتهِ. فقد تركت وراءها درسًا خالدًا: أن الوطن لا يُختزل في خريطة، ولا الغربة في بُعد. الوطن يُولد من حبة فول تُطهى بيد محبة، ومن رغيف خبز يُكسر على مائدة إخلاص، ومن قلبٍ يعرف أن الأمانة جسر يصل الأرض بالسماء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top