|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

“القوة الحقيقية لا تتجلى في السيطرة، بل في ضبط النفس وسط الفوضى.” – فيكتور هوغو
في عالم يموج بالصراعات والحروب، حيث يُعاد رسم الخرائط بدماء الأبرياء، وحيث تصبح المبادئ مجرد شعارات تُرفع حين تخدم المصالح. يبقى الاختبار الحقيقي لأي أمة هو كيفية تعاملها مع من يقع في قبضتها، لا حين تكون منتصرة، بل حين يكون لديها السلطة الكاملة على الضعيف، الأسير، المختلف. هناك، بين جدران السجون أو خلف خطوط النار، حيث لا كاميرات توثق ولا ضمير عالمي يراقب، تنكشف الحقائق العارية: من يحترم إنسانية الإنسان، ومن يتجرد منها ليغدو وحشًا يلبس هيئة البشر.
تلك الفتاة، التي وُجدت في قلب الصراع، لم تكن مجرد أسيرة، بل شاهدة على امتحان نادر للأخلاق. حين سقطت في الأسر، لم تجد أمامها الجلاد الذي رسمته في مخيلتها، لم تجد وحوشًا تتلهف لإذلالها أو رجالًا يسعون لإهانتها، بل وجدت معاملة لم تكن تتوقعها. هناك، في قلب ما ظنته معسكرًا معاديًا، لم يُمس كرامتها، لم تُهدر حقوقها، لم يُنظر إليها كعدو يُستحق الانتقام منه، بل كإنسان له حقوق حتى في ذروة الحرب.
لم يكن الأمر متعلّقًا بقوانين دولية تفرض معاملة إنسانية للأسرى، ولم يكن هناك ضغط إعلامي يراقب المشهد. كان الأمر أبسط وأعمق: أخلاق لا تتغير تحت ضغط الظروف، ومبادئ لم تُمحَ بمرور الطائرات الحربية في السماء. هكذا كان الاختبار الأول للقيم، وهكذا نجح من كان يُفترض أنهم “الأعداء” في إثبات أن إنسانيتهم لم تذهب ضحية الصراع.
لكن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد، بل تحولت إلى مرآة عاكسة للعالم حين عادت الفتاة إلى وطنها، إلى مكانها الذي كان من المفترض أن يكون أكثر أمنًا، حيث كان يجب أن تُستقبل كضحية حرب، لا كغنيمة. هناك، بين من كانوا يُفترض أن يكونوا “أهلها”، لم تجد الاحترام ذاته الذي وجدته لدى من حسبتهم خصومًا. لم تُعامل كأسيرة نجت، بل كفرصة لاستغلال الجسد بلا رادع. وبدلًا من الاحتفال بحريتها، وُضعت لها حبوب منومة، ليُغتصب جسدها من قبل من كان يُفترض أن يحميه.
وهنا يطرح السؤال الأخلاقي الأهم: من هو الإنسان؟ ومن هو الحيوان؟ أهو من حمل السلاح لكنه حافظ على كرامة أسيره، أم من ارتدى لباس المدنية لكنه سقط في وحل السلوك البدائي؟ إن الإنسانية ليست ادعاءً يُرفع على منصات الأمم المتحدة، بل هي ذلك الفارق الخفي بين من يسقط في فوضى الغريزة، ومن يسمو عليها حتى في أحلك اللحظات.
التاريخ مليء بأمثلة مشابهة، حيث تكشف الأزمات الجوهر الحقيقي للبشر، ليس في مواقف القوة، بل في لحظات الهيمنة المطلقة. فحين يسقط العدو بين يديك، حين تكون سلطتك غير محدودة، حين تستطيع أن تفعل ما تشاء دون خوف من العقاب، هناك فقط يظهر إنسانك الحقيقي. الحروب ليست فقط ميادين للقتال، بل ساحات خفية لاختبار القيم، حيث يتحدد الفرق بين دولة تُبنى على مبادئ، وأخرى تُبنى على العنف وحده.
حين خرج نيلسون مانديلا من زنزانته بعد 27 عامًا من الأسر، لم يكن حاملاً لراية الانتقام، بل كان درسًا حيًا في أن العظمة لا تتجلى في القدرة على العقاب، بل في القدرة على التسامح مع الحفاظ على الكرامة. وحين واجه غاندي أعنف إمبراطورية في العالم، لم يحمل سلاحًا، بل حمل قوة أخلاقية جعلت العالم كله يعيد النظر في مفهوم المقاومة.
إن الأمم لا تُقاس بقدرتها على سحق خصومها، بل بقدرتها على أن تبقى وفية لقيمها حتى حين تملك القوة الكاملة للانحراف عنها. القوة العارية التي لا تحكمها المبادئ ليست سوى صورة أخرى للوحشية، حتى لو ارتدت أقنعة السياسة أو تغطت بذرائع الأمن القومي. أما من يظن أن القيم مجرد رفاهية، فسوف يكتشف، عاجلًا أم آجلًا، أن الحضارات التي تفقد بوصلتها الأخلاقية تنهار من الداخل قبل أن يسقطها أي عدو خارجي.
المعركة مع العدو قد تطول لعقود، لكن المعركة الحقيقية هي تلك التي يخوضها كل مجتمع مع ذاته، بين ما يدّعيه في العلن، وما يفعله حين يظن أن لا أحد يراه. والأمم التي تنتصر في هذه المعركة ليست تلك التي تمتلك الجيوش الأقوى، بل تلك التي تستطيع، وسط طوفان العنف، أن تحافظ على روحها، على إنسانيتها، على الفرق الذي يجعلها أمة تستحق البقاء.
في النهاية، لن يسأل التاريخ عن عدد الطلقات التي أُطلقت، بل عن عدد القيم التي صمدت.