في حضرة الوفاء… عبداللطيف الهاجري لا يزال بيننا

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

ما أعجب تلك الأرواح التي تمضي عن دنيانا، لكنها لا تبرح قلوبنا، ولا تغادر وجداننا، بل تبقى ماثلة أمامنا، حاضرة في تفاصيلنا، تعيش معنا في أدق المواقف وأصغر اللحظات، كأنها لم ترحل يومًا. هكذا هو بو عبدالرحمن “عبداللطيف الهاجري”، رحمه الله، الرجل الذي لم يكن مجرد اسم في سجلٍّ وظيفي، ولا مجرد وجه في صورة جماعية، بل كان حالة نادرة من النقاء المهني والصفاء الإنساني، رجلًا يحمل في قلبه روح المؤسسة، وفي عقله مشروعاتها، وفي وجدانه الناس وهمومهم وآمالهم.

إن الحديث عن عبداللطيف ليس حديثًا عن ذكرى وفاة، ولا وقوفًا عاطفيًا في محطة رحيل، بل هو استحضار حيّ لصوتٍ ما زال يهمس، وعقلٍ ما زال يرشد، وسلوكٍ ما زال يلهم. إنه حضورٌ يومي في حياتنا المهنية، في التخطيط، في الإنجاز، في النقاشات الحادة والصامتة، في تفاصيل البريد، وفي نبرات الاجتماعات. وكأن الرجل ما زال هناك، في الزاوية التي اعتاد الجلوس فيها، يراجع جدول الأعمال، ويقترح،، ويبتسم، ثم يترك خلفه ما يحرّك الأفكار والقلوب معًا، ولعل أعجب ما في هذا الوفاء العجيب أننا لا نبحث عنه عمدًا، بل يأتينا تلقائيًا، في كل همسة نهمس بها في أروقة العمل، في كل سَفَرةٍ نرتبها ونتذكّر من كان أول المبادرين، في كل فكرة نعيد صياغتها ونتساءل: “ماذا كان عبداللطيف سيقترح؟”. وكأن الرجل لم يغب إلا جسدًا، أما فكره ومحبته وروحه، فهي بيننا كأنها عماد من أعمدة هذا البناء، تسنده حين يميل، وتلهمه حين يجفّ.

تمرّ بنا لحظات، بين الحين والآخر، لا نملك فيها إلا أن نعود إليه. لا لنرثيه، بل لنأنس بالقرب، ونتزود من معين الذكرى الحيّة. فنزور قبره الطاهر، ثم نمر بمسجد المشاري، ذاك البيت الإيماني الذي كان من رواده المداومين، نسترجع فيه خشوعه، هدوءه، وطريقته المتفردة في الحضور. ثم نمضي إلى منزله، ليس باعتباره مكانًا ماديًا، بل باعتباره ذاكرة نابضة، نُسلّم على أعتابه، وندعو له،ونمر بلحظات نسترجع فيها الضحكات، الجلسات، الكلمات التي حفرت أثرًا لا يزول، وليس ذلك بدافع الحنين العابر، بل هو تواصلٌ روحيٌّ نعيشه بكل صدق، نكرّره كلما ضاقت بنا تفاصيل الحياة، أو اشتدت علينا المسؤوليات، أو أردنا لحظة صفاء نستنشق فيها معاني الإخلاص والصدق والعطاء النقي. نزوره دوريًا، لا لنودّعه، بل لنتواصل معه، نجدد العهد، ونسترجع القوة من ذكراه. نبدأ من قبره، نقف بالدعاء والسكينة، ثم نمضي إلى مسجد المشاري في منطقة اليرموك، ذاك المسجد الذي اعتاده في خشوع السكينة. نصلي فيه كما كان يصلي، في ذات الزاوية، وفي ذات الوقت، كأننا نعيد ترتيب لحظة من لحظات النور التي خَبَت ظاهريًا، لكنها لم تنطفئ.

ثم نخرج، ونتوجه إلى منزله، نمشي أمامه عدة مرات ذهابًا وإيابًا، دون كلمة واحدة، فقط خطوات ومشاعر، ودمعة محبوسة، ونبضات لا تخطئ شعور الرفقة القديمة، والسكنى النقية في القلب. إنها لحظات لا يمكن وصفها إلا بالسكينة المقرونة بالحب، والوفاء الممتزج بالحنين. نهمس بأدعية لا يسمعها أحد سوانا، ونتنفس معاني حب “بوعبدالرحمن” في كل زاوية، وكل شجرة، وكل عتبة، وقد تشرفتُ هذا اليوم بأن أعيش إحدى هذه اللحظات النادرة، حيث صليتُ المغرب في مسجد المشاري، ثم مضيتُ برفقة إبني محمود، نسير في طرقاته، ونقف أمام البيت، في لحظة لا توصف، تختلط فيها مشاعر الحنين، بالشكر، بالفخر، بالرجاء. لحظةٌ تُشعرك أن الإنسان، إذا صدق، لا يُقاس بعمره، بل بأثره، ولا يُعرف برتبته أو منصبه، بل بروحه التي تتغلغل في الآخرين.

إن العلاقة التي جمعتنا بعبداللطيف الهاجري، رحمه الله، لم تكن علاقة زمالة عمل فحسب، بل كانت علاقة تأسيس مشترك، ورؤية تتشكل، ووجدانٍ يُبنى جماعيًا. لقد كان في كل مشروعٍ بصمته، وفي كل ورقةٍ تعليقاته، وفي كل خطةٍ هاجسٌ من هواجسه. وحين ترحل مثل هذه القامات، فإن المؤسسات لا تفقد مجرد موظف، بل تفقد جزءًا من روحها التأسيسية، من تاريخها الحي، من وعيها الداخلي بالمعنى الحقيقي للعمل الخيري والمهني، لقد وصف المفكر الفرنسي “بول ريكور” الذاكرة الحيّة بأنها “استمرار الحضور رغم الغياب”، وهذا ما نعيشه تمامًا مع عبداللطيف. فهو لا يُستحضر بجهد، بل يتجلى بطبيعته، كلما قرأنا وثيقة شارك فيها، أو مشينا طريقًا رسم ملامحه، أو جلسنا مع من كان يحبهم ويأنس بهم.

وكم من مرة، حين نخطط، نختلف، نبحث عن أفضل خيار، نجد أنفسنا نسأل: “كيف كان ليفكر عبداللطيف؟”، ويكون هذا السؤال وحده دليلًا على عظمته، وعلى الثقل المعنوي الذي تركه بيننا، كمرجع وجداني ومهني لا يشيخ، يقول عبدالكريم بكار: “هناك أناس يمضون من الحياة كأنهم لم يمروا، وهناك من يغيب جسدهم، وتبقى بصماتهم تضج بالحياة”، وعبداللطيف من الصنف الثاني، من أولئك الذين لا تُؤبَّن ذكراهم، بل تُستنهض، ويُقتدى بها، وتُستبقى في الوجدان لا لتُبكي، بل لتُثمر وتُلهِم.

وإننا في ظل هذه المشاعر الجيّاشة، نوقن أن الوفاء ليس لحظة، بل مسار حياة، وأن العرفان لا يكون بكلمات تُقال، بل بأعمالٍ تُنجز، على ذات الدرب، وبنفس الصدق، وبروح الإتقان التي علّمنا إياها، سلامٌ على روحك الطاهرة، يا من علمتنا أن نعيش للمؤسسة كأنها بيت، وللناس كأنهم أهل، وللقيم كأنها مصير. سلامٌ عليك، وعلى كل يومٍ زرعت فيه خيرًا، وعلّمتنا كيف يكون الحضور الحقّ بعد الغياب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top